مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

عهد جديد للأمم المتحدة؟

«لا يوجد حل إنساني لهذه المشكلات.. الحل سياسي». بهذه الكلمات اختصر أنتونيو غوتيريس الأزمات الإنسانية المؤدية إلى أكبر نزوح يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، في مقابلة أجريتُها معه ونشرتها «الشرق الأوسط»، العام الماضي، قبل أن ينهي مهامه كمفوض سامٍ للاجئين والمسؤول الأرفع حول العالم للتعامل مع هذه الأزمة. ومع تصويت مجلس الأمن بالإجماع على تعيين غوتيريس أمينًا عامًا للأمم المتحدة، ليتولى مهامه يناير (كانون الثاني) المقبل، سيصبح غوتيريس أمام تحدي إنجاز تلك الحلول السياسية.
لقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة نوعًا من الشلل في مقر الأمم المتحدة. فبينما عانت وكالات المنظمة الدولية، مثل «المفوضية السامية للاجئين» و«اليونيسيف» من مصاعب التصدي لأعراض أزمات وحروب العالم، خصوصًا الشرق الأوسط، أخفقت المنظمة الأم في الخروج بحلول دبلوماسية لمعالجة جذور تلك الأزمات. وتعددت الأسباب التي أدت إلى ذلك الإخفاق، على رأسها استخدام الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن حق النقض (الفيتو) لمنع أي قرار يتعارض مع مصالحها الخاصة، وتصعيد الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أن ضعف المنظمة بات ينعكس على أمينها العام بان كي مون الذي تنتهي حقبته مع نهاية هذا العام، والبعض يرى أن الضعف جاء من بان كي مون نفسه المعروف بشخصيته الهادئة، كما أنه لم يكن شخصية دولية أو حتى آسيوية معروفة على نطاق واسع، على الرغم من أنه شغل منصب وزير خارجية بلاده (كوريا الجنوبية). وعلى عكسه، فإن غوتيريس شغل مناصب سياسية دولية وبات معروفًا على المسرح الدولي.
وخلال إعلانه عن اختيار غوتيريس، قال السفير الروسي فيتالي تشوركين، الذي تتولى بلاده رئاسة مجلس الأمن هذا الشهر، إن التوافق حول غوتيريس بالإجماع جاء لأنه المرشح الذي يتمتع بالخبرة والمواصفات الأبرز، موضحًا: «لديه خبرة رائعة بالأمم المتحدة، وبسبب منصبه في المفوضية السامية للاجئين قام بزيارة العالم، واطلع على النزاعات الأسوأ فيه، ولديه خبرة سياسية مهمة، إذ كان رئيسًا للوزراء في بلاده (البرتغال).. وهو يعبر عن رأيه بوضوح».
هذه النقطة الأخيرة ربما ستكون الأهم في عمل غوتيريس؛ فلديه شجاعة في الطرح، ولم يخجل من وضع النقاط على الحروف خلال السنوات الماضية. ولكن في الوقت نفسه، طبيعة الأمم المتحدة تتطلب حيادية في الطرح ودبلوماسية عالية أحيانًا تعوق الصراحة المطلوبة. وغوتيريس يعرف العالم العربي معرفة جيدة، لكثرة أزمات اللاجئين خلال توليه رئاسة المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة لعقد كامل - بين عامي 2005 و2015. ولديه احترام كبير للدين الإسلامي، عبّر عنه في مقابلة سابقة أجريتُها معه ونشرتها «الشرق الأوسط» عام 2008، إذ قال: «القرآن الكريم والسنة، والحديث النبوي، فيهما تفاصيل تتطابق مع القوانين الحديثة للاجئين، ولو طبق المسلمون هذه التعليمات لكانت أفضل قوانين اللجوء». ومن المتوقع أن يبذل جهودًا واسعة لترسيخ هذه المفاهيم، بالإضافة إلى احترامه لمبادئ التنوير التي قادت أوروبا إلى احترام سيادة القانون واحترام الآخر، خلال ولايته المقبلة في الأمم المتحدة.
وبمصادقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على غوتيريس بالإجماع، رغم المنافسة الشديدة بين 13 مرشحًا على منصب الأمين العام للأمم المتحدة، أعطي غوتيريس أرضية صلبة للانطلاق بهذا الاتجاه.
ولكن لن يكون الأمر سهلاً؛ فغوتيريس يتولى مهامه وسط عواصف من الأزمات، فهناك تعقيد الخلافات الدولية - خصوصًا بين واشنطن وموسكو - والحرب السورية المستعصية والصراعات في ليبيا واليمن والعراق، وانسداد طريق إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتصعيد كوريا الشمالية، والحرب المستمرة في أوكرانيا، بالإضافة إلى قضايا أخرى من الصعب سردها هنا. لكنها جميعًا لن تُحلّ من دون إعادة احترام القانون الدولي والتزام جميع أعضاء المنظومة الدولية به.
خبرة وشخصية غوتيريس تجعلانه الأمثل للإشراف على إعادة هيكلة القوانين الدولية وإسناد الحمايات الضرورية للاجئين والمهاجرين حول العالم، بعدما فاق عددهم الـ65 مليونًا. وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، تصدرت هذه القضية اهتمامات قادة العالم، وفي دلالة على ذلك انطلقت أعمال الجمعية العامة بقمة على مدار يوم كامل تركز على هذه القضية.
وبينما بتنا نعتمد على وكالات الأمم المتحدة للتعامل مع الأزمات الإنسانية - وهي مهمة في غاية الدقة والأهمية - فلا يمكن أن يُستبدل الدور المحوري لمركز المنظمة الدولية، وهو حل النزاعات والتوصل إلى تسويات تنهي سيل الدماء والسعي لتوازن دولي يخفف من حدة الصراعات.
وبالطبع المنظمة تعكس سلوك أعضائها، ولا يمكن لها أن تقدم مبادرات أوسع مما يسمح لها. لكن هذا لا يخلي مسؤوليتها عن اتخاذ خطوات جدية لاستعادة هيبتها، واحترام القانون الدولي الذي هي وصية عليه. فعلى سبيل المثال، معاهدات جنيف وفيينا التي وقع عليها أعضاء المنظمة نرى الالتزام بها اليوم مهددًا بسبب مواقف أعضاء من المنظمة نفسها. وتولي أمين عام جديد يعطي المنظمة فرصة للتعامل مع الأزمات بنفَس جديد، وبتزامن قدومه مع وصول رئيس (أو رئيسة) جديد للبيت الأبيض، بداية العام المقبل، قد تزداد فرص الخروج من مآزق حالية.
لا شك أن شخصًا واحدًا لا يمكن أن يغير من مسار الأمم المتحدة والنظام العالمي. ولكن إذا كانت هناك شخصية دولية تستطيع أن تقرب بين وجهات النظر ولديها الجرأة في مواجهة المعضلات والانتقادات والسير نحو تذليل هذه الصعاب، فهذه الشخصية تتجسد بغوتيريس.