محمد سرميني
كاتب سوري معارض
TT

من أجل تغيير سياسي حقيقي في سوريا

مع تعقد الصراع العسكري، ودخول أطراف كثيرة حلبة الميدان السوري، كان آخرها التدخل التركي في جرابلس، وقبلها التدخل الروسي الذي دخل عامه الثاني، بات المشهد السوري شديد التعقيد والتشابك، وأصبح التنبؤ بمخرجاته أشبه باللغز.
وإذا ما ترافق ذلك مع أداء متواضع للمعارضة السياسية، واشتباك خجول مع الواقع إلى درجة أن المعارضين في الخارج أصبحوا محدودي التأثير في ميزان القوى الفعلية، فإن المشهد يصبح أكثر قتامة. يضاف إلى ذلك أن قرار تحريك بعض الجبهات وفتح المعارك بات مرهونًا بإرادة الداعم، كما هو الحال في الجبهة الجنوبية، في القنيطرة ودرعا التي تشهد سكونًا مريبًا مكّن النظام من الاستفراد بداريا، أو على الأقل التعجيل بإجبارها على توقيع اتفاقية الهدنة.
على الجانب الآخر من المشهد، فقدَ النظام السوري منذ زمن بعيد سيطرته على معظم الأرض السورية، وباتت مجاميعه العسكرية وميليشياته الرديفة خارج نطاق التحكم، وهو ما أكدته دراسة حديثة صدرت عن مركز «وور أون ذا روكس» وثقت فيه حوادث تشير إلى بروز ظاهرة أمراء حرب موالين للأسد، لكنهم غير خاضعين للعاصمة دمشق، وأصبحت روسيا هي المتحكم والمتصرفة في الأمر، تليها إيران عبر حزب الله وضباط الحرس الثوري والمرتزقة الأفغان والعراقيين، ولقد تجلت ذروة فقدان السيادة بالنسبة للأسد في مشهد استدعائه وحيدًا دون وفد إلى العاصمة الروسية موسكو، وبعدها في تفاجئه بمجيء وزير الدفاع الروسي إلى سوريا، وباستبعاده كليًا من مداولات الأطراف الفاعلة بالأزمة السورية.
يدفعنا هذا الواقع إلى التساؤل: أين نحن - السوريين - من كل ما يحصل؟ هل بات دورنا منحصرًا بمباركة أو إدانة التطورات التي لم نسأل عن رأينا فيها؟!
يمكن أن يعزى السبب الرئيس لهذه الحالة إلى غياب الجسم السياسي الذي يمثل أغلب السوريين في الداخل والخارج، وإلى حالة الفجوة التي تعيق فرصة تكامل الدورين السياسي والعسكري للثورة السورية، وهذا بدوره متصل بواقع التشرذم العسكري الذي تعاني منه الفصائل، ما يمنع صدورها عن موقف واحد في أغلب القضايا، ذلك أن ما يمنح الموقف السياسي قوة إضافية هو حصوله على مباركة وتأييد جميع الأطراف العسكرية.
تتيح حالة التشتت هذه للدول الإقليمية هامشًا للتحرك خارج أجندة السوريين وأولوياتهم، وتفسح المجال أمام عقد تسويات لا تحقق هدف السوريين الأول، وهو الخلاص من دولة الاستبداد، وإنجاز التغيير السياسي الحقيقي الذي يطوي كليًا صفحة الأسد، فمع توسع الصراع وازدياد تكاليفه، وترتب أخطار تمس دواخل البلدان الإقليمية، غدت أولوية الحلفاء إنهاء الحرب بأي شكل، ولو على حساب أصحاب القضية أنفسهم.
فضلاً عن معضلة الافتقار لجسم سياسي يمثل مصالح السوريين، ويحقق الحد الأدنى المطلوب من الإجماع الوطني، لا تتوفر الأجسام السياسية القائمة حاليًا على الخبرات والميزات التي تخولها القيام بمهامها، ولا على المهارة والقدرة على قراءة التطورات السياسية وتجييرها لصالح السوريين، ومقاطعة مصالحهم مع مصالح الدول الإقليمية والدولية، وهو ما أدى إلى ارتكاس المعارضة إلى دور المفعول به، وليس الفاعل المبادر، فلقد أشارت المعطيات إلى أنه تم إبلاغ المعارضة بعزم الجيش التركي على التدخل في جرابلس، دونما حتى مجرد السماع لرأيها.
ولا يمكن في خضم ذلك نسيان مسؤولية الفصائل العسكرية في الداخل عن هذا المآل، إذ إنها باستعصائها على التوحد، أو على الأقل بفشلها في الصدور عن موقف واحد إزاء التطورات الحالية، وبمناوشاتها ومزايداتها الدائمة فيما بينها، وبريبتها تجاه الواجهات السياسية القائمة، وبعجزها عن تشكيل ذراع سياسية تنقل مطالبها وتفاوض باسمها، تغلق الطريق أمام إمكانية تعزيز موقع المعارضة في المحافل الدولية، وتضيع الفرصة لتقوية موقفها إزاء محاولات الأطراف الإقليمية والدولية لتجاهلها.
يفرض هذا الواقع على المعارضة بشقيها السياسي والعسكري إجراء مراجعة جذرية شاملة لمجمل المواقف والمحطات التي مرت بها، ويحتم عليها المبادرة للإجابة عن الأسئلة المعلقة، وإنجاز التقديرات والدراسات الاستشرافية، ودراسة الخيارات لما سيكون عليه ردها في حال تضاربت - عند مستوى ما - مصالح الحلفاء الإقليميين مع أهدافها، أو جرت تسويات لا تلبي تطلعاتها. لا يعني هذا خلق عداوات جديدة، أو سوء فهم ينجم عنه توتر مع الدول الداعمة، فالمعارضة أحوج ما تكون إلى جذب الحلفاء وضمان انحيازهم، وإنما يهدف إلى التعاطي مع عالم السياسة على أساس أنه عالم قائم بالدرجة الأولى على المصالح، وبناء الاستراتيجيات وفقًا لذلك، وليس وفقًا لتعهدات والتزامات كشفت السنوات السابقة رخاوتها وهزالها.
لن يكون لأهداف وتطلعات السوريين وجود وازن على طاولة المفاوضات، ما لم تتصف الواجهة السياسية الممثلة لهم بالعزيمة والقدرة على شبك وتداخل المصالح، وهو بدوره لن يكون متاحًا ما لم تتحلَ الفصائل العسكرية في الداخل بالتواضع والواقعية والغيرية. بذلك يمكن تقديم بديل متوازن ومؤثر يستطيع اللعب على مصالح الدول وتناقضاتها لاجتراح حل سياسي ينهي دولة الاستبداد، ويحقق التغيير المنشود.

*كاتب سوري