نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

حريق في نابلس

المدينة التاريخية التي أسسها الكنعانيون قبل خمسة آلاف وستمائة سنة، تنزف دمًا وقلقًا في زمانها الفلسطيني.
عشاق الشعارات اللاهبة يسمونها عاصمة جبل النار، والشعراء الرومانسيون يسمونها ابنة الجبلين الشاهقين عيبال وجرزيم.
والعرب الذين لم تتسنَّ لهم زيارتها يعرفونها من الجبنة البيضاء التي تستعصي على التقليد، والصابون القوي الذي ما اخترع حتى الآن ما هو أفعل منه، والكنافة اللذيذة التي لا ينجح محل حلويات في العالم العربي إلا إذا أنتجها.
كل شيء جميل يقترن بهذه المدينة، لم تغب عنها ظاهرة التزاوج الأبدي بين الحداثة والعراقة، فيها أجمل جامعة وأحلى عمارة حديثة، وفيها قصبتها، حيث الأزقة الضيقة التي تنطق بكل فصول التاريخ، وفيها القناطر والجدران العتيقة، والحوانيت التي ترسل عتمتها شذى رومانسيًا وتجعل القلب يخفق مهابةً وجلالاً.
ولأهلها لهجة مميزة، فيها طرافة أخّاذة، وجاذبية تغري الظرفاء لتقليدها، وما إن يعرف أهل نابلس أن زائرًا من بلاد أخرى هبط إليها، وشوهد يمشي في شوارعها حتى يتخاطفه النابلسيون لاستضافة أثيرة يستعرضون فيها كرمًا وسخاءً توارثته الأجيال من آلاف السنين.
كل عائلة في نابلس تملك مسوغات الانتساب إلى العراقة، وكل نابلسي يحتفظ بعلامة فارقة في روحه وحياته هي إسهامه الكفاحي وانتماؤه العميق للحركة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والمدى الكوني الإسلامي والأممي، تسمى بالعاصمة الاقتصادية وهي كذلك، وتسمى بالعاصمة السياسية وهي كذلك.. وإذا ما فازت القدس بوصف زهرة المدائن، فنابلس هي الأوراق الخضراء التي تحيط بالزهرة، وهي جزء من الجذر الذي يمد الساق والأوراق بنسغ الحياة.
إذن فهي بين المدائن أحلاها وأغلاها، ومنذ تأسست قبل خمسة آلاف سنة وهي راسخة في التاريخ والحياة، متجددة الروح والإيقاع.
نابلس هذه التي لم نستذكر منها كل شيء، تحترق في زمنها الفلسطيني، ويعلو وجهها شحوب لا يخفي كآبة جماعية تسري في نفوس أهلها، تنام على صوت الرصاص، وتصحو على صمت الجنازات، تخلو الشوارع من روادها من الناس العاديين وتزدهر المآتم بالمحزونين الذين يتساءلون: ماذا بعد؟! وحين تشتعل نار في نابلس فإن ألسنتها تصيب كل المدن القريبة والبعيدة، ذلك أن الوطن الفلسطيني الأضيق من خرم إبرة، يحبس أنفاسه خوفًا من امتداد الحريق، فنابلس ليست مدينة معزولة، ولا هي في كوكب آخر، وبمقياس المدن والكيانات تكون حيًا من أحياء فلسطين التي اختصرت في هذا الزمن بستة آلاف كيلومتر مربع هي مساحة مدينة متوسطة من مدن هذا العالم.
ما يخيف إلى حد الذعر أن ما يجري في نابلس، وكان قد جرى مثله في مدن أخرى، يشكل إغراء جاهزًا لكل من لا يريد رؤية وطن فلسطيني سليم ومعافى، تقوده دولة حقيقية تظلل أهلها بأجنحة الأمن والأمان، وإن لم تُتدارك الأمور وتبرأ فلسطين من نيرانها محلية الصنع، فمن من العالم سيدفع باتجاه الخلاص من الاحتلال وأنيابه المغروزة في كل جزء من الجسد الفلسطيني؟!
في كل مكان على وجه الأرض اختلافات واقتتالات واضطرابات وانتكاسات للأحلام، غير أن فلسطين لا تقارن بأي مكان آخر، فدون هذه الأمراض في فلسطين همٌّ لا مثيل له في أي مكان على وجه الأرض، فهي تنفرد بخاصية المكان الوحيد في العالم الذي يجثم على صدره احتلال دام نصف قرن ويخطط أصحابه لأن يدوم إلى الأبد، وَهْمٌ كهذا يحرّم وبصورة منطقية وتلقائية إطلاق طلقة فلسطينية واحدة على جسد الفلسطيني، فما بالك ونحن نتحدث عن مدينة تحترق ووطن يخشى ألسنة النار؟!