محمد سرميني
كاتب سوري معارض
TT

تركيا وجديدها حول سوريا

بعد سنوات من القطيعة والتوتر أعلنت تركيا تطبيع علاقتها مع روسيا وإسرائيل في يوم واحد، بعد نحو سبعة أشهر على توتر العلاقات مع روسيا، وسنوات عدة على توتر العلاقات مع إسرائيل.
جاءت هذه التطورات ضمن نهج جديد تبنته الحكومة التركية برئاسة رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدريم، الذي تعهد بتحسين علاقات بلاده مع سوريا ومصر والعراق أيضًا.
أثار هذا التوجه قلق السوريين المعارضين للنظام، ومخاوفهم من تراجع تركي حاد قد ينجم عنه خفض سقف المطالب الثورية إلى ما دون المقبول، باعتبار تركيا أحد أهم داعمي الثورة السورية.
فإلى أي مدى ستصل الاستدارة التركية فيما يخص المسألة السورية؟!
طوال سنوات الثورة السورية نظرت تركيا إلى سوريا باعتبارها قضية مصيرية، سواء من جهة صلتها بالمسألة الكردية الداخلية أو من جهة الحدود المشتركة، وانعكاس أي خلل فيها على الأمن الداخلي التركي وعلى انتظام سير قوافل الشاحنات التجارية إلى المنطقة العربية عبر البوابة السورية.
لقد انتهجت تركيا منذ البداية أسلوب النصيحة لنظام الأسد والتواصل معه لحثه على تغيير أسلوبه في التعاطي مع مطالب الإصلاح، إلى أن بلغت ردة فعل النظام حدًا جعل تركيا تحجم عن دور الوسيط لتنتقل إلى الدعم العلني لمطالب الثائرين.
لكن استعصاء الأزمة السورية وطول أمدها ونشوب تداعيات جديدة على أثرها، مثل نشأة تنظيم داعش وتحوله إلى خطر يتهدد المنطقة وحتى العالم، وصعود نجم حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تريد بعض العواصم الدولية منحه دورًا أساسيًا في مكافحة «داعش»، وربما مساعدته في الوقت نفسه لإنشاء كيان كردي على الحدود، دفع تركيا إلى ترتيب أولوياتها وإعادة النظر مجددًا في موقعها بالمنطقة، والتفكر في المستجدات الطارئة وما تنطوي عليه من مخاطر تتهدد أمنها القومي.
لقد بالغت تركيا في رهانها على «الربيع العربي» وفي التقليل من شأن مراكز القوى العميقة، ووضعت أغلب بيضها في سلة الثورات العربية؛ مؤملة نجاحها وترسيخ علاقاتها مع دولها، وأمضت طيلة السنوات الخمس الماضية في انتظار حصد ثمار «الربيع العربي» في أغلب محطاته.
وكما تبين لاحقًا، فإن استبدال داود أوغلو بـيلدريم لم يكن على صلة بالشؤون الداخلية التركية فحسب كما ظن البعض للوهلة الأولى، من جهة تمهل أوغلو في إقرار النظام الرئاسي وكبحه جماح الاندفاعة الحكومية في ضرب الكيان الموازي، وإنما تعدى ذلك إلى قضايا خارجية أراد صانع القرار التركي معالجتها بطاقم جديد لا تثقله تصعيدات المرحلة السابقة.
وبحماسة تعتزم التحرر من تبعات الماضي شرع يلدريم في إعادة تفعيل مبدأ «صفر مشكلات» مع دول الجوار، الذي كان - للمفارقة - مبدأ سابقه، فأعاد علاقات بلاده مع إسرائيل وروسيا، ووعد بتحسينها مع مصر وسوريا والعراق، وجديدها التصريح الذي أطلقه (الأربعاء 13 يوليو/ تموز 2016) حول عودة العلاقات مع سوريا.
غير أن مصادر مطلعة ومقربة من مراكز صنع القرار التركي أشارت إلى عدم حصول انعطافة تركية في الموضوع السوري، وإلى أن تصريحات يلدريم موجهة للداخل التركي الذي يحمِّل الحكومة وسياستها الخارجية مسوؤلية تردي الأوضاع الداخلية، سواء من حيث تنامي موجة الإرهاب التي طالت مراكز حيوية، كان آخرها الهجوم الإرهابي على مطار أتاتورك، وما أسفرت عنه هذه الموجة من ضرب للسياحة، أو من حيث عودة الجنوب الشرقي ساحة للمواجهات ضد حزب العمال الكردستاني كإحدى نتائج «التورط في المستنقع السوري» وفق ما يرى معارضو الحكومة، ونقلت المصادر ذاتها أيضًا ثبات الموقف التركي من القضية السورية، وعدم تخلي أنقرة عن هدفها النهائي بتغيير النظام في دمشق.
أما فيما يخص الخبر الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام حول قدوم العماد «علي حبيب» إلى أنقرة، للتباحث في تشكيل حكومة عسكرية موسعة برئاسة حبيب وبمشاركة عدد كبير من ضباط النظام والضباط المنشقين، رفضت المصادر ذاتها تأكيد الخبر أو نفيه، في محاولة ربما لجسّ نبض الأطراف الداعمة للنظام، وعلى رأسها روسيا حول تقبلها لفكرة إيجاد بديل عن الأسد.
ونقلت المصادر أيضًا استعداد تركيا لبذل كل جهد ممكن للحفاظ على جبهة حلب ومنع حصارها، دون أن تغفل عن توجيه اللوم للفصائل العسكرية وتشرذمها.
والواقع، أنه رغم وضوح التصريحات التركية الساعية لتحسين العلاقات مع «سوريا» فإنه من غير المتوقع أن يكون معنى ذلك التسليم بالواقع والانكفاء وإخلاء الساحة لخصوم تركيا كي يصوغوا وحدهم سوريا الجديدة؛ ذلك أن المصالح العليا للدولة التركية تتناقض كليا مع استمرار نظام الأسد الذي تحالف طيلة السنوات السابقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي وتواطأ معه في إخلاء مناطق الكثافة الكردية في سوريا من قوات النظام مساهمًا على نحو مباشر في تشكيل كانتونات كردية ترى تركيا فيها خطرًا مباشرًا يمس وحدتها وأمنها القومي.
على ضوء ذلك، مالت أنقرة لاعتماد مقاربة جديدة ذات شقين؛ مواصلة الضغط العسكري على نظام الأسد في جبهتي حلب وإدلب (ومؤخرًا في جبل التركمان) ومدِّهما بكل أسباب الصمود، وإنشاء قطاع صديق من الأراضي داخل سوريا للحيلولة دون ربط الكانتونات التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي بعضها ببعض، ودون وصول نيران «داعش» إلى المدن التركية المحاذية للحدود كما حصل في كيليس.
من المرجح أن تركيا باتت على قناعة بصحة الحكمة السياسية التي صاغها الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت: «تكلمْ بهدوء واحمِلْ عصا غليظة»، ففي خضم الهاوية السورية لم تتكلم تركيا بهدوء ولم تحمل عصا غليظة، وهو ما أدركت أنقرة خطأه على ضوء التطورات الأخيرة التي عصفت بالمنطقة. وفي اعتمادها المستجد للهجة الحوار مع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية وفي حزمها وعدم تهاونها لمواجهة الأخطار التي تحدق بالجمهورية، تكون تركيا في طريقها لاجتراح معادلة جديدة قادرة على الاستجابة للتحديات الإقليمية التي تتهددها وعلى صوغ الحلول والتسويات السياسية التي تضمن مصالحها العليا التي يأتي في مقدمتها إنجاز تغيير سياسي حقيقي في سوريا.