ميشيل كيلو
رئيس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، وهو ناشط في لجان إحياء المجتمع المدني وأحد المشاركين في صياغة إعلان دمشق محلل سياسي وكاتب.
TT

معركة الساحل!

ليست معركة الساحل كغيرها من المعارك الدائرة على أرض وطننا، لأن حساباتها تختلف عن حسابات غيرها. في مناطق سوريا الأخرى، يقاتل الجيش الحر وتنظيمات المقاومة الأخرى جيشا نظاميا يغلب عليه لون طائفي ومذهبي معين، من دون أن يعني ذلك أنه يقاتل مذهبا أو طائفة بعينها. يفسر هذا، لماذا لم يتحول القتال ضد جيش النظام إلى حرب أهلية، وغلب عليه طابع قتال ضد سلطة استبدادية تستأثر بالحكم، ترفضها قطاعات واسعة من الشعب تضم مزيجا متنوعا من بنات وأبناء طوائف مختلفة، من علويين ومسيحيين ودروز وإسماعيليين وغيرهم.
في الساحل، يختلف الأمر عن ذلك، بسبب كثافة الحضور العلوي في أرجائه، والعدد الكبير من أبناء المذاهب الأخرى الذين نزحوا إليه من مناطق سوريا الأخرى، ويقدر بنيف ومليون مواطنة ومواطن، يتوزعون على قراه وبلداته ومدنه، في دليل إضافي يؤكد أن شعب سوريا لا يحارب بعضه بعضا، ويواصل وسط صعوبات جمة مألوفة في العيش المشترك، ويرفض جهود السلطة التي تعمل على دفعه إلى حال من القطيعة والعداء تجعل أي تماس بين مكوناته انفجاريا وداميا. في المناطق السورية الأخرى، ليست المعركة موجهة ضد كتلة بشرية بعينها، أما هنا، فيمكن لأي خطأ في الحسابات أو أي صدام بين مواطنين متنوعين مذهبيا أن يؤديا إلى كارثة وطنية خطيرة الأبعاد، ستأخذ حتما شكل حرب أهلية مديدة، لن يكون ما جرى إلى اليوم من فظائع وجرائم ارتكبها النظام وأتباعه ومن يتبعون نهجه من المسلحين، غير أحداث بسيطة، بالمقارنة مع ما سيقع فيها.
هنا، في منطقة الساحل، تمس الحاجة إلى فصل الناس عن السلطة، وبقائهم خارج المعارك ضد النظام ومؤسساته، وإلا انقلبت الحرب ضده إلى حرب تستهدف مواطنات ومواطنين عزلا لا يجوز مسهم بسوء، حتى إن كانوا موالين سياسيا للسلطة، التي يجب أن تقترن الحرب ضدها هنا بمواقف وطنية وإنسانية تحترم وتصون حياتهم وممتلكاتهم وكرامتهم وحريتهم، تفصلهم في الوقت نفسه عن النظام، وتقنعهم بالأفعال أن المعركة ليست ضدهم، وأن سوريا الآتية ستكون لهم أيضا بقدر ما ستكون لغيرهم من مواطنيها الآخرين. هذا الفصل يجب أن يتم بضمانات تقدمها مختلف أطياف المعارضة في صورة إعلان وطني ملزم يدعمه الجيش الحر وبقية فصائل المقاومة المسلحة، بما فيها التنظيمات الإسلامية، التي لا يحق لها أن تنحدر إلى مستوى النظام، وعليها أن ترفض القتل على الهوية والشبهة، وتعلن أن سوريا القادمة لن تكون من لون مذهبي أو ديني واحد، بل ستكون وطنا لجميع أبنائها من أي مذهب ولون وجنس ومنبت، على أن تثبت ذلك خلال معاركها ضد النظام في منطقة تتصف بقدر عظيم من الحساسية، أنتجته سياسات النظام الطائفية، وجريمة ربط مكونات مجتمعية بسلطته ومؤسساته العسكرية والأمنية، مما أعطى انطباعا كاذبا بأنها منه وأنه منها، وبأنهما كيان واحد لا يقبل الفصل.
بالنظر إلى هذه التعقيدات والتشابكات، تحفظت في الماضي وأتحفظ اليوم أيضا على ما سمي «معركة الساحل»، واعتقدت دوما أنه ليس من الضروري فتحها في الساحل نفسه، وأنه يمكنها أن تقع في أي مكان غيره من سوريا، بما أن حسمها خارجه لن يترك آثارا كارثية على الثورة وفرص نجاحها كتلك التي يحدثها وقوعها فيه، ولن يقودنا إلى مرحلة نوعية من الاقتتال الداخلي اسمها الحرب الأهلية، التي ستتعاظم فرص حدوثها في حال كان هناك معركة خاصة في الساحل، ستكون أولا معركة طويلة ومكلفة إلى حدود يصعب فظاعتها، ولأن وقوعها سيجعل من السهل على النظام التلاعب بمشاعر الناس، وتأجيج ضغائنهم وأحقادهم، وزجهم من دون كبير عناء في معركته الإجرامية ضد مواطنيهم. بقول آخر.. ليس الحسم ولا يجوز أن يكون في المنطقة الساحلية. ومن الضروري أن يمر بمرحلتين؛ أولى تغطي بقية مناطق سوريا، يتم خلالها تقويض قدرات النظام على الاستمرار والحرب، تحمى خلالها المنطقة الساحلية من سياسات وشرور السلطة، ومرحلة ثانية يكون لأهل الساحل فيها دور في الصراع ضد النظام، الذي ستكون علامات هزيمته جلية للعيان، وقادرة على إقناع الموالين منهم له بالانفكاك عنه، وبحتمية مشاركتهم في العمل الوطني، وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم ومطالبهم بالأسلوب الذي يختارونه.
إلى أن يحدث هذا، لا بد من الامتناع عن مهاجمة مناطق الساحل المدنية، ولا مفر من التوجه إليها بخطاب وطني يقوم على المصالحة والاحترام، بينما يجب منع النظام من استعادة المناطق والمواقع التي تم تحريرها خارجها، والتي يمكن استخدامها لممارسة المزيد من الضغوط عليه، ولبناء ميزان قوى يساعد على التخلص منه.
بغير ذلك، يكون ذهابنا لتحرير منطقة الساحل خطأ جسيما سيغرق سوريا كلها في رمال متحركة، ستجرها إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، ستقلص كثيرا فرص إضعاف النظام وإسقاطه، وقد تقضي على البقية الباقية من شعبنا ووطننا المنكوبين!