نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

ماذا بعد التفجير في المدينة؟

تفجير المدينة، كان المحرم الأخير والأكبر الذي كسره «داعش». التجرؤ على المسجد النبوي، فاق في الوجدان الإسلامي العام كل ما قام به «داعش» حتى الآن، من أعمال ذبح وحرق وقتل واسترقاق.
مع ذلك لم يُنتج استفظاع الجريمة، مشهدية تخاطب بصر العالم وبصيرته، وتعلن وقوف المسلمين في صف الدفاع عن دينهم وحضارتهم وهويتهم. تفجير المدينة بالتحديد يخص المسلمين وحدهم ويخص مفردات مكونهم الحضاري، وهو اعتداء عليهم في هذا المكان تمامًا. المشهدية المطلوبة (كتظاهرة استنكار مليونية، أو اعتصام متزامن ضد فقه «داعش») ليست مطلوبة على قاعدة إعلان المسلمين عن انخراطهم في العالم وتحسسهم بما ينزل به ويصيبه باسم الإسلام، كاشتراكهم في ظاهرة التضامن مع فرنسا مرتين، أولى في أعقاب الاعتداء على صحيفة «شارلي إيبدو» وثانية بعد «غزوة باريس»! ولا هي مشهدية مطلوبة من زاوية تحسس المسلمين للبعد التعددي في مجتمعاتهم، كاستنكار تهجير المسيحيين أو استعباد الإيزيديات أو تكفير مذاهب بعينها!
هذا مهم طبعًا. مهم أن يكون المسلمون في صف العالم. يستفظعون ما يستفظع، ويتألمون لما يؤلم الآخرين. ومهم أيضا إدراكهم لثراء مجتمعاتهم وتعدديتها. غير أن ذلك به شيء من الترف، أمام تفجير المدينة الذي يعتبر اعتداء صميميا لا التباس فيه على هويتهم الإسلامية ومقدساتهم ورموزهم. مع ذلك لم تُنتج الجريمة غير نص الاستنكار الرسمي المعتاد، الذي لا أنفي عنه جديته، لكني أراه أقل بكثير عن رد فعل يتخيله المرء أو يرجوه إزاء حدث مماثل. ألم تفجر زيارة أرييل شارون الاستفزازية إلى الأقصى عام 2000 انتفاضة فلسطينية ثانية؟ صحيح أن تراكمات العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية بين الجانبين وخيبات عملية السلام، كانت في أساس الانتفاضة، لكن ما استحوذ على عقل المؤيدين المسلمين غير الفلسطينيين واستثار حميتهم هو «تدنيس شارون للأقصى»!!
لماذا لم يثر تدنيس «داعش» للمدينة ما أثارته واقعة العام 2000 في القدس؟
الواقع أننا أمام قراءتين محتدمتين، وقد شهدت على احتدامهما خلال جلسة سجال ساخنة في العاصمة الأميركية واشنطن.
تنطلق القراءة الأولى من أن الراديكالية السنية المسلحة هي في الغالب رد فعل على الثورة الخمينية في إيران عام 1979 أو من إفرازاتها واستلهام نموذجها وإن من موقع مخاصم. بالنسبة لهذه القراءة التاريخ موصول من الثورة الخمينية، مرورًا بظاهرة الأفغان العرب لمواجهة الاتحاد السوفياتي، ثم «القاعدة» وصولاً إلى «داعش».
في كل هذا المسار، تحيل القراءة المشار إليها، على مظلومية سنية تتغذى منها أفكار التطرف وتجد لنفسها، من خلالها، مشروعية وقضية. هنا لا يعود الحديث ممكنًا عن هزيمة «داعش» قبل إسقاط الأسد ورد عدوان إيران على المنطقة، وتقليص نفوذها في المساحات الاستراتيجية العربية، بدءًا من البحرين واليمن، وصولاً إلى سوريا.. ولبنان والعراق!
وجهة النظر هذه، غير معنية بالنقاش النظري والأكاديمي حول أسس فكر «داعش» وأخواتها، وهي، إذن تغرق في براغماتيتها، ترى أن الاقتتال السني السني، أي المواجهة بين الحكومات العربية والتنظيمات الراديكالية، يجب ألا يتقدم كأولوية على الصراع الأساسي مع إيران. فلا علاج للتطرف ولا تجفيف لمنابعه من غير تعطيل السياسة التوسعية المذهبية الإيرانية. لائحة حجج هذه الوجهة تطول، وأبرزها العراق حيث هَزَم السنة العراقيون «القاعدة» مرتين، ولم يحصلوا إلا على ملاحقات طالت أبرز رموزهم في العملية السياسية وإهمال منظم على مستوى الرعاية الحكومية لمناطقهم وناسهم.
وفي سوريا حيث الميليشيات الشيعية المرعية من إيران تمنع السوريين وأغلبيتهم السنية من إسقاط نظام طاغية، بقوة القتل والتهجير وهدم المدن.
الوجهة الثانية، تقفز فوق كل هذه الوقائع، لتضع على الطاولة وجود أزمة داخل الإسلام، تتجاهلها الوجهة الأولى أو تتحايل على الاعتراف بها. وهي ترفض رفضًا قاطعًا نظرية المظلومية السنية بالبناء المتسرع على أزمتين، ولو كبيرتين، في دولتين من أصل 22 دولة عربية و57 دولة إسلامية ذات أغلبيات سنية.
ليست المظلومية السنية، هي دافع الباكستاني أو التونسي أو الأفغاني خلف فقه الجريمة، بل فقه الجريمة نفسه. إنها أزمة، وفق هذه الوجهة، داخل الإسلام، وداخل الإسلام السني على وجه التحديد.
أرى أنه من العبث الفصل القاطع بين الوجهتين. مع ميلي إلى أن ثمة مبالغة كبيرة في تبرير الأزمة داخل الإسلام بحيثيات سياسية أو جيوسياسية تتصل بنقطة اشتباك هنا أو هناك. الوجهتان تتكاملان في صناعة مشهدنا الإسلامي المأزوم. وأرجو أننا نتقدم بجدية نحو معالجة تعطي الوجهتين حقهما في السياسات المنتجة.
دليلي أنه تعليقًا على تفجير المدينة قال الملك سلمان إن «أكبر تحد تواجهه الأمة الإسلامية هو المحافظة على ثروتها الحقيقية وأمل مستقبلها، وهم الشباب من المخاطر التي تواجههم، وبخاصة الغلو والتطرف واتباع الدعوات الخبيثة المضللة». لم يقل التحدي الأكبر إيران، أو عملية سياسية عادلة في العراق، أو كف يد إيران في البحرين واليمن. قال بوضوح إن التحدي الأكبر هو «الدعوات الخبيثة»! هنا ساحة المعركة الحقيقية لإخراج الإسلام من محنته. أو لنقل إنها ساحة قائمة بحد ذاتها أيًا تكن معطيات الاشتباك مع إيران اليوم ومع غيرها غدًا.
هل نفتتح ورشة ما بعد الإدانة والاستنكار؟