رغم الشهرة الواسعة التي لطالما تمتع بها الملاكم محمد علي، فإن اعتناقه الإسلام - وما يحمله في طياته من رؤية للعالم ومعنى له - هو ما جعله شخصية تاريخية عالمية. وينبغي تفهم تحول محمد علي إلى الإسلام باعتباره خطوة نحو التلاحم مع المضطهدين المعذبين على وجه الأرض. ومن خلال علي، مرت صورة الإسلام بتحول رمزي في أعين كثير من المراقبين، بحيث تحول من دين محافظ سلبي إلى قوة للاعتراض في مواجهة القوة الغربية.
في الواقع، فإن متابعة قصة علي تكشف عن الإسلام على مدار نصف القرن الأخير أكثر مما تكشف عن شخصية الملاكم ذاته. ومع هذا، يبقى هناك أمر مذهل حقًا حيال كيف تمكن أول رياضي أميركي من أصول أفريقية وصل إلى العالمية، من استغلال هذه الشهرة العالمية في التحول إلى لسان معبر عن حراك ديني - سياسي، وليس مشاعر وطنية أو توجهات استهلاكية.
عندما قبل علي علانية داخل جماعة «أمة الإسلام» عام 1964، كانت هذه الجماعة هامشية على نحو مزدوج، ذلك أنها من ناحية كانت هامشية للغاية على صعيد الحياة الدينية الأميركية. من ناحية أخرى، فإنه من منظور ديني واجتماعي، تبدو هذه الجماعة غريبة تمامًا عن الإسلام العالمي في صوره الأساسية المتنوعة.
وعند النظر إليها في إطار التاريخ الدين الأميركي، نجد أن «أمة الإسلام» كانت واحدة من الجماعات الدينية الأميركية - الأفريقية المتعددة التي صاغت نفسها بنفسها. تأسست «أمة الإسلام» في شيكاغو عام 1930، وشكلت معتقداتها الدينية امتدادًا لأفكار البروتستانتية المسيحية، وفي الوقت ذاته جاءت بمثابة تمرد على المسيحية التي جرى النظر إليها باعتبارها دين قاهري العبيد. وردد مؤسسو الجماعة قصة تضع أصحاب البشرة السمراء في مرتبة أرقى عن أصحاب البشرة البيضاء. أما رؤيتهم لأفريقيا فتتسم بالتعقيد، لكن بحلول وقت انضمام علي إليها، كانت «أمة الإسلام» قد اتبعت التصور الذي أقره ماركوس غارفي لأفريقيا وضرورة العمل على بناء صلات معها، بالنظر إلى أنها كانت الوطن الأصلي الذي اقتطع منه الأميركيون - الأفريقيون بوحشية وجرى استعبادهم.
ورغم إعلان مسلمي «أمة الإسلام» انتماءهم إلى الإسلام، فإن ممارساتهم الأصلية غير معروفة لدى الغالبية الكاسحة من مسلمي العالم الآخرين. والملاحظ كذلك أن أتباع «أمة الإسلام» لم يقرأوا القرآن في صورته العربية الأصلية، ولم يمارسوا الصلاة باللغة العربية أيضًا.
والواضح أن عنوانًا مثل «اعتناق بطل العالم في ملاكمة الوزن الثقيل الإسلام» حمل تأثيرًا بالغًا طغى على فكرة أن علي انضم إلى جماعة لم يسمع بها وبأفكارها غالبية المسلمين. أيضًا، في خضم «الحرب الباردة» كفل مزيج القوة الناعمة والصلبة الأميركي نشر قصة البطل الأميركي بشتى أرجاء المعمورة.
ويتمثل عنصر آخر على القدر ذاته من الأهمية، أو ربما أكثر، في الوكالة الخاصة بعلي ذاته وعبقرية الملاكم العالمي في التواصل. وبالنسبة لعلي، فإنه استغل كامل مهاراته من شعر وشعارات وكاريزما في إعلان خبر تحوله إلى الإسلام، وحرص على تسليط الضوء على جوهر رسالته: مقاومة الهيمنة الأميركية البيضاء. ومن هذا المنظور، بدا ثمة خط مشترك بين أسلوب لعبه الذي جرى التعبير عنه بالعبارة الشهيرة: «تحرك كفراشة والدغ كنحلة»، وجملته الشهيرة في تبرير رفضه المشاركة في حرب فيتنام: «ليس ثمة شجار بيني وبين فييت كونغ».
الواضح أن حرب فيتنام كانت بمثابة الأدوات التي رسم بها علي صورته كمقاوم، وجاء رفضه للمشاركة في الحرب ليجمع بين حجته لرفض العنصرية الأميركية مع تأكيده على تضامنه مع ضحايا العنف الأميركي من الفيتناميين. وجاء إلقاء القبض عليه وسجنه ثم انتصاره نهاية الأمر بناءً على قرار صدر بالإجماع عن المحكمة العليا ليجعل منه أبرز فرد في العالم وقف بوجه الحكومة الأميركية وخرج من المواجهة منتصرًا.
وكان من شأن كل هذا تحويله إلى رمز عالمي، مثلما تجلى خلال الفترة السابقة مباشرة لمواجهته جورج فورمان في كنشاسا بزائير عام 1974. ومثلما اتضح من الفيلم الوثائقي الرائع «عندما كنا ملوكًا»، وبدرجة أقل عبر كتابات نورمان ميلر وجورج بلمبتون، جرت معاملة علي من قبل أبناء زائير باعتباره بطل أفريقيا. أما جورج فورمان سيئ الحظ فقد وجد نفسه يمثل النفوذ العالمي الأميركي الثقيل.
أما الأمر الذي نادرًا ما ينتبه إليه أحد في خضم هذه العملية الرمزية، فهو أن علي كان واحدًا من أولى الشخصيات العالمية - بل وربما أولها - التي بدا الإسلام من خلالها عنصرًا محوريًا للتعبير عن مقاومة «العالم الثالث» وثورته. لقد اعتنق علي الإسلام، وعبر هذا تحول في الوقت ذاته إلى أحد عناصر مقاومة «العالم الثالث» لهيمنة الغرب وتوجهاته العسكرية. ولاقت هذه الهوية الجديدة له احتفاءً من قبل أبناء «العالم الثالث» من مسلمين وغير مسلمين على حد سواء، مثلما تجلى في زائير.
وعليه، فإن سرد التاريخ المعقد للراديكالية على مدار نصف القرن الأخير يستلزم الإشارة إلى كيف أن دور علي الرمزي حول الإسلام لأداة محتملة للحراك المناهض للإمبريالية والاستعمار والغرب.
المؤكد أن السلمية الشديدة التي لطالما دعا إليها علي تبدو بعيدة كل البعد عن الوجه المسلح الذي ظهر نهاية الأمر خلال ثمانينات القرن الماضي. وقد نشأت هذه النزعة المسلحة من مزيج حركة التحرير الفلسطينية والثورة الإيرانية وعدد من العوامل الأخرى شديدة التنوع.
أما علي، فقد جعل من نفسه رمزًا حيًا لهذه المقاومة، باستخدام أدوات مألوفة وأخرى من ابتكاره.
* بالاتفاق مع بلومبيرغ