صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

مؤتمر باريس: خطوة إنقاذية قبل غرق العراق

تعرضت فرنسا لضغوطات هائلة، من بينها تهديدات أمنية فعلية لاستضافتها لقاء أو مهرجان، أو في حقيقة الأمر، «مؤتمر» المعارضة العراقية الجديدة الأخير، الذي انعقد يوم السبت الماضي في باريس، وضم رموزًا مؤثرة من كل مكونات الشعب العراقي، السنة والشيعة والكرد والشيعة الفيليين واليزيديين والتركمان والأشوريين والمسيحيين بكل انتماءاتهم، وحضره مسؤولون سابقون، على مستويات عليا مختلفة، من الولايات المتحدة ومن فرنسا نفسها ومن بريطانيا ومن بعض الدول الغربية واثنان من العرب بصورة فردية وشخصية.
والسؤال هنا هو: لماذا يا ترى كل هذه الحملة التي شنتها إيران ومعها أتباعها طالما أنَّ شعار هذا المؤتمر هو: «المشروع الوطني العراقي: معًا لإنقاذ العراق»، وطالما أنَّ اللجوء إلى العنف والقوة لم يرد ولو بمفردة واحدة في أدبيات هذا المؤتمر، وحيث إنه قد تم تأكيد استعادة وحدة العراق، وتماسكه الوطني بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية، وإعادة بنائه على أساس مواصفات الدول الديمقراطية الحديثة، على أساس أن الدين لله وأن الوطن للجميع ومن دون تمييز ولا تحيز ولا محاباة؟
فمن هي يا ترى الجهة التي ترفض هذا كله وتصر على هذا الواقع الذي بقي سائدًا منذ عام 2003، وفقًا للمعادلة المعروفة التي فرضها المندوب السامي الأميركي، بول بريمر، بمباركة من اعتبروا أنفسهم منتصرين، ومن بينهم إيران التي باتت تحتل العراق احتلالاً كاملاً بكل معاني الاحتلال وتجلياته ومعطياته، بحيث أصبح جنرال حراس الثورة الإيرانية قاسم سليماني هو الآمر الناهي في بلاد الرافدين لا كلمة إلا كلمته ولا رأي إلا رأيه ولا مواجهة من دونه ولا معركة إلا بقيادته ولا علاقات مع أي دولة عربية أو غير عربية إلا بمعرفته وموافقته المسبقة.
إن هذا هو الواقع الذي لا يستطيع إنكاره حتى «المؤلفة قلوبهم» من العرب السنة الذين أصبحوا شهود زور على مرحلة لم يمر بمثلها هذا «القطر» العربي إلا في تلك الفترة الصفوية الظلامية البعيدة، وبالطبع، أيضًا، حتى الذين استبدلوا بعروبتهم التذيل للإيرانيين الذين أصبحوا جنودًا مأجورين في فيلق الولي الفقيه، الذي كان حسن نصر الله قال إنه يفتخر بأنه أصبح مقاتلاً فيه وإنه أحد جنوده، هذا الفيلق الذي أصبح له في سوريا جيش جرار من ثمانين ألف جندي، وذلك غير الميليشيات الطائفية التي وصلت أعدادها بوصفها تنظيمات إلى العشرات.
وهكذا، فإن المؤكد أن إيران، ومعها بعض العراقيين من أتباعها، هي التي وجهت إلى فرنسا كل التهديدات التي وجهتها إليها لثنيها عن استضافة هذا المؤتمر العراقي، الذي ضم رموزًا فاعلة من كل المكونات العراقية، والذي تبنى برنامجًا إصلاحيًا سلميًا لم يتضمن حتى إشارة واحدة، لا معلنة ولا خفية، باللجوء إلى العنف والقوة لتسوية أوضاع العراق واستعادة وحدته وتماسكه وتحريره من تنظيم داعش الإرهابي ومن الهيمنة العسكرية والسياسية الإيرانية.
وهنا، فإن المستغرب حقًا أن بعض الأحزاب والتنظيمات العراقية، التي ساهمت إنْ بشكل مباشر أو غير مباشر في إيصال هذا البلد إلى ما وصل إليه، قد وضعت نفسها إلى جانب إيران وكل الذين عارضوا هذا المؤتمر واستهدفوه بالبيانات وبالتهديد والوعيد، وذلك بالإضافة إلى أن بعض الصحف العربية (المهاجرة) لم تعطِ نفسها فرصة التدقيق والاستقصاء، ومن دون أي مستمسكات وأي أدلة اتهمت أحد القائمين على هذه المبادرة بأنه ينتمي إلى «الإخوان المسلمين» وذلك مع أنه لو أن هذا كان صحيحًا لكان رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري أول المساهمين في هذه المبادرة وأول المدافعين عنها.
ربما اتخذ البعض هذا الموقف السلبي من مؤتمر باريس العراقي الأخير ومن هذه المبادرة الإنقاذية التي عنوانها وشعارها: «المشروع الوطني العراقي.. معًا لإنقاذ العراق» لأنهم نظروا إليه من أطراف عيون مصابة بالحول لا تريد أن ترى إلا ما تريد رؤيته، ويقينًا لو أن هؤلاء يعرفون أن كل التحولات التاريخية قد بدأت بمغامرة صغيرة غير مضمونة العواقب كالثورة الجزائرية المظفرة وكالثورة الفلسطينية وكمسيرة الألف ميل التي قادها ماو تسي تونغ التي كانت قد بدأت بخطوة واحدة لكانوا ترددوا كثيرًا قبل أن يقولوا كل هذه الافتراءات التي قالوها، بل لكان بعضهم على الأقل قد انضم إلى هؤلاء «المغامرين» الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم والذين فضَّلوا السباحة ضد التيار التدميري الجارف الذي تقوده إيران وتخشى التصدي له بعض الدول العربية.
ثم، ومرة أخرى، فإنه لا بد من السؤال والتساؤل عمّا إذا كانت هناك ضرورة لهذه الخطوة التي يعتقد المجوّفون من الداخل والمصابون بهلع لا علاج له من إيران الفارسية أنها خطوة انتحارية غير مضمونة العواقب، وأن مصيرها الفشل لا محالة... والجواب من دون أي تردد هو: نعم إن هناك حاجة لما أقدمت هذه المجموعة الطلائعية التي تمثل كل مكونات الشعب العراقي طالما أنَّ بلاد النهرين العربية غدت مدمرة وممزقة وشعبها منثور كلاجئين في أربع رياح الأرض... وطالما أنها أصبحت محتلة من قبل الإيرانيين الفرس ومن قبل مجموعات وزمر طائفية ومذهبية حاقدة تكره التاريخ العربي كله لدوافع وأسباب مفتعلة ليس فيها ولو الحد الأدنى من الموضوعية والصحة.
إن إيران تخشى العرب الشيعة أكثر كثيرًا من خشيتها العرب السنة، ولذلك فإنه أمر طبيعي أن تقاوم هذا «المشروع الوطني العراقي» الذي من أول أهدافه القضاء على هذه الفتنة المذهبية القذرة فعلاً، وهو إعادة العراق إلى أيامه العظيمة عندما كانت الوطنية العراقية الصادقة هي أساس الفرز بين العراقيين على مختلف انتماءاتهم الطائفية والعرقية، وحقيقة أن من يعرف واقع بلاد النهرين الفعلي والحقيقي لا بد أنه يعرف أنَّ وجدان عرب المذهب الجعفري الاثني عشري هو وجدان قومي عروبي، وأنَّ هؤلاء قد يقبلون أخوة وحُسن جوار مع إيران الفارسية، لكنهم لا يمكن أن يقبلوا بهيمنة الفرس على وطنهم الذي لا وطن لهم غيره، وخصوصًا أنهم بغالبيتهم، إنْ ليس كلهم، يتحدرون من تلك القبائل العظيمة التي ساهمت في أمجاد ذي قار والقادسية.
لقد كان لا بد، في ضوء هذا الواقع المظلم والمخيف، من أن تبرز معارضة جادة نظيفة وصادقة تجمع ولا تفرق وتعمل من أجل استعادة العراق واستعادة وحدته وتماسكه وانتشاله من كل هذه الأوضاع المزرية التي أوصلته إليها «معادلة» بول بريمر وشركائه الذين عادوا من المنافي القريبة والبعيدة على ظهور الدبابات الأميركية... وحقيقةً إن هذا ما تحتاجه أيضًا المعارضة السورية التي غدت مطالبة، بعدما وصلت قرارات (جنيف1) إلى جدار مسدود، بالارتقاء بعلاقاتها الفصائلية الحالية إلى مستوى أفضل وإنشاء جبهة وطنية عريضة بجيش موحد وبقرار واحد وبتطلعات مستقبلية واحدة لدولة المستقبل المنشودة!!