خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مكملان البخيل

من الغريب أن نجد البخلاء، أو فلنقل الحريصين على الصرف اقتصاديًا، يحملون حرصهم واقتصادهم معهم إلى أعلى المناصب وأرفع المستويات. يظهر أن هارولد مكملان، رئيس الحكومة البريطانية السابق، كان من هذه الفصيلة رغم ثروته وأسرته الأرستقراطية، عندما شغل منصبًا وزاريًا عام 1951. وكان يساعده في عمله رجنالد بفنز، وكيلاً عنه. كتب بفنز في يومياته يقول:
«المستر هارولد مكملان رجل حريص. وكان يستمتع دائمًا بالحصول على أي هدية وكرم يقدم له. ذهبنا سويا إلى ليفربول في زيارة رسمية لغرض زرع شجرة تذكارية، فأعطي رفشًا فضيًا لهذه المهمة. وبعد عودتنا للندن، رأيت ملاحظة منه تنتظرني على الطاولة تقول: ما الذي حصل للرفش الفضي الذي قدموه إلي في ليفربول؟ اكتب لهم واطلب منهم أن يبعثوا به إلى عنواني بريتش غروف». وكان صارمًا وملحًا في هذا الموضوع. بعد بضعة أيام سرق اللصوص دراجة زميلي ماربلس الوكيل الثاني من أمام مكتب مكملان. تعهدت إحدى شركات الدراجات أن تعوضه عنها. ولكن مكملان رفض وأصر على استعادة الدراجة من اللصوص.
وفي مذكرات هارولد إيفانز، السكرتير الصحافي لمكملان «يوميات في داوننغ ستريت» كتب يقول إن رئيسه استقال من عمله بعد مرضه ودخوله المستشفى: وضعوه في غرفة صغيرة جدًا وكان قانعًا بها. ولكن عندما قامت الملكة إليزابيث بزيارته نقلوه إلى غرفة أكبر، غرفة رئيسة الممرضات ليتمكن من استقبالها.
ولا شك أنهم أعادوه إلى غرفته الصغيرة المتواضعة والرخيصة بعد انتهاء الزيارة الملكية. كانت لدى مكملان شكوى واحدة عبر عنها بصراحة. قال إنه خلال أربع وعشرين ساعة من تقديم استقالته وانتهاء عمله رئيسًا للوزراء، بادرت دائرة البريد إلى قطع الخط التليفوني عن بيته ثم تحويله إلى بدالة مقر رئاسة الحكومة. أدى ذلك به إلى دفع نصف بنس عن كل مكالمة يقوم بها من بيته. فالتمس من سكرتيره أن يقوم هو بفتح التليفون لمكالمته بدلاً من أن يقوم به مكملان نفسه بفتح المكالمة فيتحمل هو أجرة النصف بنس عنها. اسمعوا أيها المقيمون المتحصنون في المنطقة الخضراء في بغداد!
تذكرني الحكاية الأولى، حكاية الرفش الفضي، بما رواه لي الدبلوماسي العراقي السابق عبد المنعم الخطيب. عن رئيسه السفير العراقي في إحدى الدول العربية. فعندما قدم السفير أوراق اعتماده وخرج وجد هدية تذكارية من رئيس الدولة تنتظره. أخذها شاكرًا ثم فتحها في مكتبه أمام الموظفين. وجد أمامه ساعة فضية. وكان سعادة السفير قد سمع قبلاً أن السفير البريطاني تلقى في مناسبة رسمية مشابهة ساعة ذهبية. فثارت عروقه وأزبد وعربد واتهم موظفي التشريفات بأنهم قد استصغروه واستغفلوه وغيروا الهدية الذهبية الثمينة بساعة فضية رخيصة. هذه إهانة - قال لعبد المنعم - ليست لي فقط وإنما لبلدنا العراق أيضًا. لحسن الحظ لم يحاول أن يطلب من سكرتيره ملاحقة موظفي التشريفات الذين غيروا الهدية.