حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الفهلوة والعلم!

كنت أحاول التركيز في كتاب مشوق، فالرحلة مملة وموضوع الكتاب مثير للاهتمام، ولكن كان للراكب الذي يجلس بجانبي في الطائرة مشروع آخر، فلقد واصل محاولاته المزعجة لفتح موضوع تلو الآخر، ولفت نظري «أسلوب» الرجل في طرح المواضيع، ورغبته وحرصه على تأكيد أنه هو مصدر المعلومة، وأنه «متأكد» من ذلك. وكان في هذا الطرح يستخدم ديباجات باتت معروفة كمقدمات لما سيأتي بعدها، فأصبح من المتوقع أنه متى بدأ أحدهم باستخدام عبارة «مع احترامي»، ستكون الجملة التي تليها مليئة بالإهانة والتصغير والتجريح، أو متى استخدمت عبارة «دعني أشرح لك حقيقة الموضوع»، سيكون من المؤكد أن تأتي بعدها موجة هائلة من الجمل التعظيمية والتفخيمية للذات. وكل ذلك جعلني أراجع الصورة العامة للمشهد الإعلامي في العالم العربي الواقع بين «الفن والعلم» و«الفهلوة». وشتان الفارق ما بينهما، وطبعًا تكون دومًا الضحية الأولى والأكبر هي الحقيقة والمتلقي لها. أسترجع وأنا أكتب هذه السطور حوارًا مع شخصية سياسية نافذة في مصر كانت تصف المشهد السياسي العام في مصر في السنوات الأخيرة بأنه أشبه بالصراع بين «الأحمدين»، وعندما استفسرت منه عن مقصده بالأحمدين، قال لي: «أقصد أنه صراع بين أحمد عدوية وأحمد زويل»، وطلبت منه توضيح مقصده، فقال لي مبتسمًا: أحمد زويل رجل عالِم، يبني حجته بالأدلة والبراهين والأبحاث الموثقة، فبالتالي يصل إلى استنتاج واضح المعالم لا جدال فيه، بينما أحمد عدوية من مدرسة مختلفة، وهناك مقطع في إحدى أغنياته الشهيرة يوجز المشهد بشكل دقيق حينما يقول: «لو الباب يخبط نعرف بره مين»، وطبعًا هناك من يعتمد على الأسلوب الأول، وهناك من يتبنى ويرتاح بالأسلوب الثاني.
على الرغم من الأسلوب الساخر جدًا في المقارنة، فإن نقطة ومغزى الرجل كانت قد وصلت عندي بوضوح شديد، وبدأت أسقط هذا الرأي على الأحداث الحاصلة في المنطقة والتغطية الإعلامية المصاحبة لها، ووجدت أن حالة «أحمد عدوية» تطغى على مدرسة «أحمد زويل» وبشكل مذهل، وهذه المسألة تولد مع الوقت حالة متزايدة ومتفاقمة من الشك والقلق والخوف من كل ما يتم تعاطيه على الساحة، مهما كانت الطروحات مبهرة وجذابة.
الرسالة الإعلامية في زمن التواصل الاجتماعي أصبحت سلعة فورية، وكأنها وجبة تم تسخينها بشكل فوري في جهاز الميكروويف، ولكنها لم تنضج بشكل كامل وسليم، ويتم تعاطيها فورًا، ولأنها ناقصة التجهيز والتحضير، تكون النتيجة الطبيعية عسر هضم في القبول والفهم والتلقي.
أحداث كثيرة كنت أتابع تغطيتها خلال الفترة القليلة الماضية، وذهلت من حجم «الفهلوة» في التعاطي مع الأخبار، والبعد التام عن المهنية والاحتراف والموضوعية والأمانة، ويصبح ما يقدم بالتالي أشبه بالضجيج والضوضاء والإزعاج والتلوث الكامل، ويكون بطبيعة الحال مليئًا بالمبالغة والنفاق وازدواجية المعايير والشخصنة، ويصبح المشهد برمته انتقاميًا وكيديًا أكثر منه عقلانيًا وموضوعيًا. وبالتالي، بات يشكل أرضية مناسبة للضغينة والحقد والكذب والكراهية والغضب التي باتت سمة مشتركة في المجتمعات العربية بشكل تصاعدي مقلق، وهي ظاهرة قد تفسر كثيرًا من العلل والمصائب التي باتت عناوين مستمرة في الأخبار الصادمة الحزينة.