محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

هل يحتاج الفن إلى اللون؟

عندما بدأ الترويج للشاشات الملوّنـة في الخمسينات، تلك السينمائية والتلفزيونية فيما بعد، كان مفتاح الدعاية كامنا في كلمة «طبيعي»: «شاهد الفيلم بالألوان الطبيعية» أو «هذا البرنامج يأتيكم بالألوان الطبيعية». والمقصود بالطبع أن ألوان الطبيعة (أزرق، أحمر، أصفر، أخضر وكل ما ينشق عنها أو يتألّف من مزج أي لونين أو أكثر) هي التي ستراها على الشاشة في البيت أو في صالة السينما وليس اللا - لون الذي كان دارجا ومعبّرا عنه بالأبيض والأسود وتدرّجاتهما الرمادية.
لكن إذا ما كان الأمر على هذا النحو، أي إذا ما كانت الألوان هي الطبيعية وسواها ليس طبيعيا (وهو مفهوم صحيح إلى حد كبير) لمَ كان الفيلم الأبيض والأسود محبوبا ولا يزال بين فئة كبيرة من المشاهدين؟ لماذا لم يشكوا النظّـارة منهما مطالبين بأفلام ملوّنـة وبل لماذا راجت السينما عندما كانت بلا ألوان؟
ليس أن السينما لم تعرف الألوان قبل الخمسينات. الفرنسي موريس كليمان (النون تكتب ولا تُلفظ) لوّن فيلمه «سيرانو دي برجيراك» سنة 1900 باليد (وبل أضاف عليه الصوت مسجّلا على نحو منفصل). الفرنسي الآخر جورج ميلييس لوّن بعض أفلامه الأولى (من عام 1902 وما بعد) باليد أيضا. ويستطيع أي منا العودة إلى تاريخ اللون ليجد أنه في كل عقد كانت هناك محاولة لإدخال اللون إلى السينما لكنها لم تنجح.
لماذا؟
السبب الرئيس هو أن الجمهور لم يستلطف اللون. جمهور الأمس وجد ضالته في الشاشة الرمادية (أو الفضيّـة كما اسمها الأكثر انتشارا) وأحبّـها على هذا النحو. ولهذا سبب أعمق: إذا ما كانت السينما خيالا، فإن اللا - تلوين هو جزء من هذا الخيال. لماذا، والسؤال دار بخلد ملايين، على المرء أن يدخل عالما أكثر واقعيا إذا ما كان ينشد عالما أكثر بعدا عن الواقعية.
ولا يمكن إنكار قيمة الأفلام التي صوّرت بالأبيض والأسود، لا من حيث معطياتها الفنية المحضة ولا من حيث تأثير أجوائها على المشاهدين ولا من حيث التقائها مع مضامين أنواع متعددة من الأفلام (هذا جلي فيما يُـعرف بـ«الفيلم نوار» حيث الشخصيات بذاتها مزيج من الأسود والأبيض في الداخل النفسي والعاطفي).
الفنون الأخرى تتشرذم حيال هذا الوضع.
يمكن انتشار الرسم الأبيض والأسود والرمادي (يسمّـونها «ألوان أكروماتيك») وهناك الكثير من هذه الاتجاهات، لكن لا يمكن تقديم قطعة موسيقية بأي لون سوى اللون النفسي الذي تحصده الروح إذا ما استجابت للموسيقى. أما المسرح فهو مجال أصعب. من ناحية تقنية يمكن إلباس الممثلين ثيابا سوداء وبيضاء ورمادية وجعل الديكور كله أكروماتيكيا، لكن من ناحية منطقية على ذلك أن يجيب على السؤال الصعب: لماذا؟
الجواب عليه أن يُـبرر بالتشكيل الفني والوجداني للحياة التي ستعبّـر عنها المسرحية. الأفكار التي تتداخلها والمدارس التي ستنتمي إلى واحد منها. وشخصيا، لا علم لي إذا ما تم تقديم مسرحية بالأبيض والأسود من قبل، لكن الصعوبة في ذلك تكمن في أن تقديم مسرحية على هذا النحو يحمل خداعا للحياة على عكس السينما إذ ترتفع نسبة القبول بهذا الأمر إلى اليوم، فإذا بالأفلام البيضاء - السوداء ما زالت مصنوعة، وبعضها ينال الأوسكار أو أيا من الجوائز السنوية الأخرى.