شارل جبور
TT

الرياض تستنهض وتقود

يخطئ كل من يرفض قراءة الحركة السعودية على حقيقتها، لأن الخطأ في التشخيص يقود إلى خطأ في التقدير ويستتبع أخطاءً في الممارسة والتطبيق. فلقد حان الوقت ليعترف محور الممانعة أن كل نظرياته حول أن السعودية على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار تفتقد إلى الصدقية، بل هذا النوع من الترويج ينعكس سلبًا على جمهور هذا المحور عندما يلمس لمس اليد أن كل ما تروّج له قيادته لا يستند إلى الحقيقة والواقع، إنما يرتكز على تمنيات غير قابلة للتحقق إلا في الأحلام، فضلاً عن أن التشخيص الصحيح يقود إلى معالجات صحيحة، والتشخيص الخطأ يقود إلى الانزلاق نحو المزيد من المواجهات التي تُظهر أكثر فأكثر أن محور الممانعة الخاسر الأكبر فيها.
فلم يعد بإمكان القوى الدولية والإقليمية وتحديدًا طهران تجاهل الوقائع التي استجدت منذ إعلان السعودية «عاصفة الحزم» إلى اليوم، وذلك لجهة إمساك الرياض بالقرار الاستراتيجي العربي والإسلامي، فهي المبادر الوحيد في المنطقة مؤخرًا عسكريًا وسياسيًا، من «عاصفة الحزم» إلى الزيارة التاريخية بتوقيتها ورمزيتها ونتائجها لمصر، وصولاً إلى سعيها المتواصل لتضييق هامش الخلاف التركي - المصري من أجل قيام مثلث عربي - إسلامي يضع حدًا للاختراقات الإيرانية.
وبمعزل عن الأسباب التي قد تكون وراء الاستنفار السعودي، ومنها الاتفاق النووي الإيراني ومحاولة طهران لبننة وسورنة وعرقنة اليمن، ومواصلتها زرع الخلايا في شتى أنحاء العواصم العربية لتهديد أنظمتها، ومن دون إغفال أيضًا تخاذل المجتمع الدولي واستقالته من مسؤولياته، ولكن بمعزل عن كل تلك الأسباب وغيرها، فالأساس اليوم يكمن في الواقع الجديد الذي بدأت تظهر مؤشراته من خلال الحركة السعودية الاستثنائية التي ترسم معالم المنطقة مجددًا.
فما يحصل في المنطقة يوازي بأهميته ما حصل بعد الحرب العالمية الأولى مع فارق أن اللاعب الأساس، أي السعودية، هو قوة إقليمية من صلب المنطقة وهمومها، وليس قوى دولية هدفها الهيمنة على دول المنطقة، فيما الهدف الأساس للحركة السعودية الحفاظ على سيادة الدول القائمة واستقلالها.
ويسجل للسعودية في هذا السياق أنها قوة إقليمية مختلفة عن غيرها، فلا تسعى على غرار مصر عبد الناصر وفلسطين أبو عمار وسوريا الأسد وإيران ولاية الفقيه إلى الهيمنة على دول المنطقة وضرب استقرارها واعتماد سياسة مد النفوذ، بل كل همها إعادة الاستقرار إلى تلك الدول ووضع حد للثورة الإيرانية التي تحاول خطف القرار العربي ومصادرته.
ولقد دخلت المنطقة مع التوجه الاستراتيجي السعودي مرحلة جديدة وحقبة جديدة، وأهميتها تكمن في ثلاثة مستويات:
أولا، على مستوى السلام في المنطقة، حيث للمرة الأولى يمكن الحديث عن تسويات وحلول، الأمر الذي لم يكن قائمًا قبل ذلك، لأن طهران كانت ستواصل تمددها وتوسعها طالما أنها قادرة على ذلك، ولكن الوضع اختلف اليوم، سيما أن التوازن وحده يقود إلى الاستقرار والسلام. وما اعتقدته طهران بعد توقيعها للنووي أنه يشكل بوليصة تأمين لتشريع دخولها إلى المنطقة كان في غير محله، لأن الرياض أشهرت في وجهها البطاقة الحمراء، فبدأ العد العكسي لهذا التدخل.
ثانيًا، على مستوى مواجهة الإرهاب، إذ أن أحد الأسباب الرئيسية للإرهاب الشعور بالخيبة والإحباط والهزيمة، فيما استعادة السعودية للفعالية العربية والإسلامية يبدد ذاك الشعور بالمظلومية في ظل وجود مرجعية عربية تعكف على الدفاع عن حقوق العرب والمسلمين. ومواجهة «داعش» لا يمكن أن تكون إلا من دول سنية، وما يحصل اليوم من إعادة الاعتبار للقرار العربي - الإسلامي يشكل المدخل الأبرز لمكافحة الإرهاب.
ثالثًا، على مستوى القضية الفلسطينية، إذ أن استعادة الفعالية العربية ووحدة الموقف العربي والإسلامي ووضع حد للاختراقات الإيرانية للساحة الفلسطينية أو المزايدات الممانعاتية الرامية إلى توسيع دور طهران على حساب العرب، يؤدي تلقائيًا إلى إحياء المسار الفلسطيني - الإسرائيلي ووضعه على خط التسوية النهائية، ولن تتمكن تل أبيب من مواجهة التوجه العربي للقضية الفلسطينية التي تلقى بدورها تأييدًا غربيًا.
ولم يعد ممكنًا بعد استنهاض الرياض للواقعين العربي والإسلامي وقيادة المواجهة دفاعًا عن استقلالية الموقف العربي والإسلامي الكلام عن استمرار بشار الأسد في سوريا، ففي لعبة موازين القوى الدولية - الإقليمية والإقليمية - الإقليمية لم يعد من مكان للأسد في المعادلة الجديدة.
فلا واشنطن ولا موسكو ولا الاتحاد الأوروبي في وارد معاداة الرياض والجسم العربي - الإسلامي الذي أعادت توحيده. وطهران التي كانت تحاول مقايضة النووي بدورها في المنطقة، تتجه إلى خسارة دورها بعد خسارتها للنووي، إلا في حال قررت استبدال دورها العسكري بدور سياسي بنّاء بوابته الرياض حصرًا.
ويبقى أن تجاهل المعطيات الجديدة لا يفيد، إنما يؤخر فقط التسويات العادلة التي لا بد آتية عاجلاً أم آجلاً في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن...