شارل جبور
TT

الدولة اللبنانية كذبة... ولكن

الهجوم المفتعل على مكاتب صحيفة «الشرق الأوسط» في بيروت ألغى أي إمكانية لفتح باب النقاش العقلاني بين معارض للكاريكاتير الذي نشرته الصحيفة حول «كذبة نيسان... دولة لبنان» ومؤيد له، لأن الرد على كاريكاتير لا يكون بالتخريب والفوضى والتهديد، خصوصًا أن رد الفعل لم يكن عفويًا، بل منظمًا من قِبل مجموعة احترفت أعمال الشغب، وحاولت أن تستثمر الكاريكاتير للتعبئة والتحريض ضد السعودية، فضلاً عن أنها آخر من يحق له الدفاع عن لبنان، لأن ممارساتها تسيء للبلد وتجربته، ودوره وقيمته المضافة.
ولا نقاش بأن الدولة في لبنان صورية ومغلوب على أمرها، وحدود صلاحياتها لا تتجاوز مجالس البلدية، لأن قرار الحرب مصادر من قِبل «حزب الله»، فيما من المعلوم أنه بمجرد أن توجد قوة أقوى من الدولة تتعطل كل الأعمال التي تتولاها الأخيرة، حيث يصبح الأمن بالتراضي، والقضاء بالتراضي والسياسة بالتراضي...
ولا نقاش، أيضًا، بأن الدولة في لبنان مغيبة منذ عام 1969 بفعل العامل الفلسطيني في المرحلة الممتدة منذ عام 1969 إلى عام 1982، وبفعل العامل السوري من عام 1976 إلى عام 2005، وبفعل دور «حزب الله» منذ عام 2005 إلى اليوم...
ولا نقاش، أيضًا وأيضًا، أن أي فريق مهيمن على الدولة يحاول تظهير صورة معاكسة تنصلاً من أي مسؤولية، وتدليلاً بأن البلد محكوم من أهله، بغية إعطاء الغطاء الشرعي لهيمنته، حيث إن القرار السياسي إبان الاحتلال السوري كان في دمشق لا بيروت، إنما الدولة في لبنان والملحقة بالنظام السوري كانت تحرص أمام الغرب، تنفيذًا للإملاءات السورية، على الظهور بأنها سيدة قرارها من أجل أن تستند مطالبتها ببقاء الجيش السوري إلى مشروعية لبنانية، ومن هنا جاءت مقولة إن الجيش السوري في لبنان «ضروري وشرعي ومؤقت»، ومن هنا أيضًا، يحرص «حزب الله» في كل البيانات الوزارية على إدخال ثلاثيته الشهيرة «جيش وشعب ومقاومة» بغية التلطي بالشرعية اللبنانية.
فلا نقاش إذن حول ما إذا كانت الدولة اللبنانية كذبة أم لا، لأنها كذبة بالتأكيد، ولكن السؤال هو عن ماهية البدائل والخيارات؟ وفي هذا السياق، يمكن الكلام عن خيارين، لا ثالث لهما:
الخيار الأول يتصل بالاستراتيجية التي اعتمدها ويعتمدها «فريق 14 آذار»، والقائمة على مبدأ تعزيز خيار الدولة في مواجهة خيار الدويلة، وذلك من خلال الاستثمار في بناء الدولة ومؤسساتها وترسيخ الاستقرار، وهذا النهج يتناقض كليا مع توجه الدويلة الذي يرتكز على إضعاف الدولة وتعميم الفوضى.
ولكن هذه الاستراتيجية لم تثبت نجاحها، بدليل أن دور «حزب الله» توسّع ولم ينحسر، والقرار الاستراتيجي المتصل بالحرب ما زال مصادرًا من قبله، والدولة كانت وما زالت عاجزة عن القيام بأي شيء يتناقض مع توجهاته، بل تراجع دورها بشكل دراماتيكي بعد استخدامه السلاح في 7 مايو (أيار) 2008 في رسالة، أنه على استعداد لإحياء الحرب الأهلية في حال ثمة أي محاولة للحد من دوره وسلاحه، ومذ ذاك خضعت «14 آذار» لشروطه وابتزازه ودخلت في مساكنة معه ضمن سياسة انتظارية للتطورات الخارجية، علها تأتي بحلول سحرية للأزمة اللبنانية.
الخيار الآخر، الذهاب إلى الحرب برفض واضح لمنطق الدولة الشكلية التي تحول وجودها إلى مجرد غطاء لحزب الله، بل ساهمت المساكنة معه في ترييحه بالداخل من أجل أن يتفرغ لدوره في سوريا والعراق واليمن، وغيرها من الدول، فيما لو مارست «14 آذار»، وتحديدًا تيار «المستقبل» الذي كان وراء قرار العودة إلى المساكنة، الممانعة الفعلية لما كان ذهب بعيدًا في حربه السورية ومع السعودية، بل المستغرب أن «المستقبل» رفض تعليق الحوار الثنائي مع «حزب الله» على رغم الهجوم غير المسبوق للأخير على السعودية.
وعلى رغم أن استراتيجية الدولة في مواجهة الدويلة لم تثبت نجاحها، فإنما تبقى كلفتها أقل بكثير من الذهاب إلى حرب أهلية جُرِّبت في لبنان وأكلت الأخضر واليابس، وبالتالي الخيار الأكيد هو في استبعاد الحرب، والتعلق بالدولة على رغم أنها كذبة، لأن لا خيار بديلاً، فيما الدور المطلوب من السعودية أولاً، والدول العربية والغربية ثانيًا، المساهمة في تعزيز الدولة وتقوية الصفوف المتداعية لقوى «14 آذار» من أجل إعادة الاعتبار للدولة وتحويلها في المستقبل القريب من كذبة إلى حقيقة.
ويبقى أن الحقيقة تجرح أحيانًا، وتذكير اللبنانيين بأن دولتهم كذبة ولّد شعورًا وطنيًا لديهم، أو لدى الشريحة اللبنانية الفعلية، وليس لدى مجموعات الشغب التي لا علاقة لها بلبنان، وبالتالي كل الأمل أن يتحول هذا الشعور الوطني إلى فعل إرادة وتصميم، من أجل استعادة ما للدولة للدولة.