عبد الرحمن الراشد
إعلاميّ ومثقّف سعوديّ، رئيس التحرير الأسبق لصحيفة «الشّرق الأوسط» ومجلة «المجلة» والمدير العام السابق لقناة العربيّة. خريج إعلام الجامعة الأميركية في واشنطن، ومن ضمن الكتاب الدائمين في الصحيفة.
TT

هل حرية الصحافة أوسع؟

هناك من اعترض على استنتاجي بأننا في مناخ أكثر حرية، عطفًا على ما تحدثت به في لقاء معي عن الإعلام، نظمته مشكورة الغرفة التجارية السعودية في المنطقة الشرقية التي جمعت لفيفًا من أهل المهنة والمهتمين بها، زملاء وأصدقاء.
والجملة الناقصة عادة تشوه الحقيقة، فالمقصود هنا بالحرية الواسعة عند مقارنته بالسنين الماضية، عندما كنت أنا محررًا ومراسلاً، وحتى رئيس تحرير أتعامل مباشرة مع النشر وقوانينه. وقد وضعت التبدلات التي مرت بها المهنة في إطارها، بما فيها دخول التقنية حيث حررت المهتمين بالتعبير من احتكار المؤسسات، حدث ذلك نتيجة ظهور الإعلام الرقمي، والتفاعلي، والتواصلي، طبعًا إلى حد ما، لأنه لا تزال هناك قيود قانونية وأعراف مجتمعية تؤثر على ما ينشر على كل المنصات.
إنما قطعًا، صارت المساحة واسعة حتى في دائرة الصحافة التقليدية، صحفًا ومجلات وكتبًا ومحطات تلفزيون. في الإعلام، بمنصاته المتعددة، توجد اليوم آلاف مؤلفة من الأصوات تعبر، وتجادل، وترفض، وتطالب، وتقترح، ولم يكن لمثلها وجود في الماضي القريب. اليوم تقرأ نقاشات مطولة ترفض ما تطرحه المؤسسات الراسخة والحكومات، وقد طار وزراء من مناصبهم بسبب التعبير الجماعي، وألغيت قرارات كذلك. اليوم، أيضًا، لم يعد رجال الدين فوق النقد، جميعهم، ربما باستثناء المفتي لمكانته، يرد عليهم ويناقشون، وكذلك القضاء والقضاة. اليوم تناقش المسائل المحرمة بالأمس، مثل حقوق المرأة، وقضايا الانتخاب، وتحميل الدولة مسؤولية كل ما لا يرضي الناس. ويقومون برصد الأسواق ويحرضون على الشركات التي تغضبهم، ويقارنون بين الأسعار، ويتصيدون عثرات البيروقراطيين.
توسع كبير في الحريات لم يسبق له مثيل، لماذا؟
بالتأكيد التقنية هي البطل الرئيسي للحريات، منذ ظهور التلفزيون الفضائي، وبعدها المواقع الإلكترونية، ثم انهار السد بظهور وسائل التواصل المتعددة لترافق انتشار وسائل الاتصال وتحديدًا الهواتف الجوالة، ففي المملكة العربية السعودية أكثر من خمسين مليون هاتف جوال، أي بمعدل هاتفين لكل فرد. وفي نفس الوقت تطورت اهتمامات الناس وتفاعلهم، واندمجوا سريعًا، وظهرت كتائب من مئات آلاف من الهواة المتحمسين يصورون، ويكتبون، ويرسمون، ويغنون، ويغردون. الحشود هي عامل مهم جدًا، جعلت التقنية مهمة وفعالة بحكم قدرتها على الاكتساح في مجالات الإعلام والتواصل.
ذكرت للمستمعين من حضور الندوة الكرام، كيف أن كل شيء تغير في عالمنا ربما دون أن نلحظه، حتى الذوق الفني. ففي السابق كانت هناك لجنة في داخل الإذاعة والتلفزيون وحدها تقرر من يصبح مطربًا، وهذه كانت الحال في كل الدول العربية. تلك اللجان الصغيرة، أحيانًا من ثلاثة أشخاص تقرر الذوق الفني لكن بعد ظهور التطبيقات الإلكترونية، وانفتاح السوق عمومًا، انتقلنا من مرحلة بمطربين إلى عالم من آلاف المغنين والجمهور هو الذي يقرر أن يستمع إليهم أو يتجاهلهم، انتهى دور الرقيب على الطرب، والرقيب على الكتب، وكل رقباء الفنون. وسائل الإعلام والمعرفة اتسعت بشكل لا نستطيع أن نقيس حدودها وتأثيراتها، من خدمات المعارف مثل غوغل، إلى وسائل تحديد المواقع والخرائط، وجمع البيانات المرتبطة منها واستنتاجاتها.
الفضاء اليوم فسيح جدًا جدًا، والأجمل أن المستقبل يشي بأن وراء فلكنا الذي نسبح فيه توجد أفلاك أعظم وأرحب، والتحدي الذي يواجهنا هو كيفية الاستفادة من هذه التقنية والعلوم المصاحبة، والحفاظ على توازننا في بيئة شبه عديمة الجاذبية. ولا شك أن هذه فرصة تاريخية للمجتمعات النامية للقفز إلى عصر التقنية الجديد، الذي سيختصر عليها الطريق الطويل وسبقها إليه العالم المتقدم وسار بعيدًا، وستتمكن من اللحاق به وربما التفوق عليه. نحن أمام حالة نادرة للإمساك بما فاتنا، أو فشلنا فيه في الماضي. التطور يتطلب وعيًا بما يحدث، وقدرة على التعامل معه بإيجابية.

[email protected]