بعد قليل: يقف المسلمون الحجاج بعرفة: أداء للركن الأعظم في الحج. فـ(الحج عرفة) كما قال نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم.
والحج عبادة عميقة جليلة لو تمثلها المسلمون كما ينبغي لصلحت أحوالهم، أو لتجدد النسيج المتين في علاقاتهم بعضهم ببعض، بيد أنه بالتأمل الأسيف الكسيف في أحوال الأمة الإسلامية نجد أن هناك انفصالا مذهلا بين هذه العبادة و(السلوك السياسي) للمسلمين في علاقاتهم البينية.
مثلا:
أ - في الحج تسقط أو تلغى (العنصريات العرقية) حيث يلتقي الأسود بالأبيض، والأحمر بالأصفر في أخوة جامعة مبنية على توحيد لله، وطاعة أمره، والتعاون على البر والتقوى، لا التعاون على الإثم والعدوان.
ب - وفي الحج تسقط أو تلغى (العصبيات المذهبية) حيث تذوب هذه العصبيات في الانتماء إلى (الإسلام العام)، حيث يصطف الجميع من كل المذاهب خلف نبيهم الذي قال لهم ((خذوا عني مناسككم)).
ج - وفي الحج تنتفي المجادلات المستفزة التي تمزق ذات البين أيما تمزيق.
وينبغي أن نعمد إلى التفصيل بعد هذا الإجمال:
إن المسلمين اليوم سجنوا أنفسهم - دون إكراه - فيما يمكن تسميته (سجن التدمير الذاتي).. نعم. وهذا هو الوصف الموضوعي لحال الأمة الإسلامية اليوم. وبديه أن هذا الوصف لا يلغي (العوامل الخارجية) التي تسهم في تدمير ما بين المسلمين من روابط وعلاقات، ولكن هذه العوامل الخارجية نفسها إنما تفعل فعلها، وتبلغ أثرها من خلال الفتوق والصدوع الذاتية التي صنعها ويصنعها المسلمون بسلوك معاصر، أو بسلوك هارب إلى التراث السلبي، مستدع له، مقيد بأغلاله.. ومن التراث ما هو قليل العقل، سقيم الفهم، كثير الأغلال والأصفاد، كثير الفتن، شديد التدمير.
إن ثمة اتجاهات فكرية وعقدية وسلوكية وثقافية لم ينشئها عدو، بل هي من نبت المسلمين وزرعهم وحصادهم.
وينبغي - ها هنا - فتح العين على مسألتين اثنتين:
1 - المسألة الأولى: أن الخلافات (الكلامية) كانت محصورة - تقريبا - في الجدل بين كبار المتجادلين من علماء العقائد، ومفكري الكلام وفلاسفته. وكانت أهم وسيلة لنشر ما يدور هي (الكتاب) وهي وسيلة محدودة النطاق ضيقته: نظرا إلى عدم وجود المطبعة (هذا الإنجاز العظيم لم يظهر إلا في القرن الخامس عشر الميلادي)، إذ كانت الكتابة باليد هي السائدة.. يضم إلى ذلك: تخلف وسائل النشر والتوزيع حيث تخلف وسائل المواصلات والاتصالات، فالغالب على المواصلات يومئذ هو: النقل بالحمير والبغال والعدائين من الناس، والوسائل البحرية المتواضعة.. أما اليوم، فقد حولت الفضائيات (علم الكلام والجدل) إلى قوت يومي للناس جميعا: المتعلمين والعوام، فلم يعد في الإمكان تحقيق مطالب كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) للإمام أبي حامد الغزالي.
2 - المسألة الثانية: هي توظيف هذه الاختلافات بين أهل القبلة في إحداث المزيد من التمزيق والتفتيت والصراعات (البينة): الباردة والساخنة.
واستراتيجية التفتيت هذه ليست مجرد لهو فكري يُحتسى في (ناد ثقافي أو فلسفي)، بل هي استراتيجية تتحرى إبقاء الأمة ملتهية بـ(التشكيك) في الأصول، وإعادة المعارك الكلامية جذعة، واستنزاف طاقات البناء والتقدم في (مناطحات ذاتية) مريرة، وذات حماسة عالية، ولكنها غبية جد غبية!!
إن الصورة المختصرة أو المركزة لواقع العالم الإسلامي هي: حالة نفسية مشحونة بالبغضاء والضغن والحقد والكراهية.. وحالة إعلامية التصقت بالأرض السابحة في الإسفاف والانحطاط.. وحالة الصراع السياسي الذي يزداد فورانا دوما، ولا يهدأ قط.. وحالة التهديد الأمني المتبادل.. وحالة الاحتراب التي تزداد اتساعا باطراد ولا تضيق قط.
ذلك كله يؤكد الانفصال المذهل المعيب بين عبادة الحج وسلوك المسلمين السياسي:
1 - فمن مقاصد الحج: الاجتماع على كلمة التوحيد المتمثلة في إخلاص النية لله وحده: ((وأتموا الحج والعمرة لله))، وفي تلبية أمره والإقامة عليه: ((لبيك اللهم لبيك... الخ)). وهذا كله يطبع المسلم بطابع الأخوة الصادقة في الله حيث الوحدة على الإخلاص لله، وحيث التناغم بترديد هتاف قدسي واحد هو التلبية.. فإذا وجدت مسلمين متخاصمين متدابرين متنافرين فاعلم أن حظوظهم من عبادة الحج تكاد تكون صفرا.
2 - ومن مقاصد الحج: النأي بالنفس - عن عمد ووعي - عن كل ما يفسد علاقة ذات البين.. ومن المفسدات: المشاحنات الناتجة عن الجدل العقيم الزنيم: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)).
ويدخل في الجدال المنهي عنه كل ما يثير حفائظ الآخرين من كلمات وعبارات وألفاظ وشعارات.
3 - ومن مقاصد الحج: المحافظة على المناخ (الآمن) الذي يتمتع فيه الجميع بالسكينة والهدوء والسلامة.. فوفق منهج القرآن: أن من دخل البيت لا بد أن يكون آمنا: ((إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا)).. ولما انفصل المسلمون عن هذا المقصد العظيم، بمعنى لم ينطبعوا به وهم في حجهم، كانت بيئاتهم - إلا من رحم الله - مضطربة أمنيا: اجتماعيا وفكريا وسياسيا.
4 - ومن مقاصد الحج: توطين النفس على صيانة الدم المسلم: استجابة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)).. والكفر - ها هنا - بنعمة الأخوة والوحدة الإسلامية.
والواقع يقول: إن هذا الكفر واقع في العالم الإسلامي اليوم حيث يضرب بعض المسلمين رقاب بعض مما يدل على أن هذا المعنى النبوي القاضي بالبعد عن الاقتتال والقتل لم يجد مكانه المناسب في شعور المسلمين وسلوكهم.
والسؤال الذي يلح على الذهن عند هذه النقطة من السياق هو: ما المخرج من هذا الكرب، وهذه الظلمة؟
المخرج هو:
أولا: أن يفهم المسلمون - بعمق - معاني العبادات التي يؤدونها.. فالعبادة في الإسلام ليست مجرد هيئة شكلية تؤدى لأجل إسقاط الفريضة - كما يقولون -، بل العبادة في حقيقتها: معنى ينطبع به الشعور والسلوك انطباعا يثمر تساميا مطردا بهما.. وليت العلماء والدعاة يركزون على هذا الجانب وهم يرشدون المسلمين ويوجهونهم.
ثانيا: هجر التلهي بالصراعات الصغيرة المرهقة: ابتغاء التعاون الجاد على ما يخرج المسلمين أجمعين من الهوان والتخلف والجمود والضياع.
ونحسب أن هنا نقطة يتوجب التركيز عليها وهي: أننا لا ندعو إلى (إلغاء) الاختلاف بإطلاق بين المسلمين. فهذا مطلب وهمي يستحيل تحقيقه للأسباب الآتية:
أ - أن عقول الناس متفاوتة الفهم والذكاء والاستيعاب.
ب - أن النص الديني في معظمه ظني الدلالة، أي يحتمل أكثر من وجهة نظر (طبعا بالشرائط العلمية المعتبرة للنظر).
ج - أن الله - تقدس في علاه - يعلم أن المسلمين سيختلفون في الفهم والاجتهاد.. وبموجب علمه المسبق - سبحانه - هدى إلى المرجعية العليا عند التنازع: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)).
ولئن كان إلغاء الاختلاف مستحيلا، فإن المطلب الموضوعي هو: أن يكون (الخلاف رفيعا) في باعثه ومقصده، مجردا من الهوى والضغن، ومن الأسلوب الدون.