ليونيد بيرشيدسكي
TT

حقيقة الانسحاب الروسي

إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير المتوقع بانسحاب القوات الروسية من سوريا لا ينبغي أن يؤخذ كحقيقة مطلقة، فلقد أعلن عن أمور مماثلة في الماضي لكي يُظهر لأطراف التفاوض الغربية كيف يمكن أن تكون سياسته بناءة. فدائما لدى الرجل أجندته الخفية.
والتفسير الرسمي لبوتين حيال الانسحاب هو أنه يعتبر أن «المهام المحددة والمطلوبة من وزارة الدفاع الروسية قد أنجزت بالكامل». ولقد سمح الجيش الروسي «للقوات السورية والقوى الوطنية في سوريا بتحقيق انفراجة جذرية ومهمة في القتال ضد الإرهاب الدولي، وتولي زمام المبادرة على كل الجبهات بصورة عملية».
لا يمكننا اعتبار الرئيس الروسي مخطئا فيما يخص العنصر الأخير من تصريحاته، فلقد تمكنت قوات النظام، إثر الجرأة الكبيرة التي حازتها بسبب الغارات الجوية الروسية ضد قوات المعارضة، من السيطرة على مزيد من الأراضي منذ بداية العام الحالي. ومع ذلك، لم تتمكن القوات الحكومية من الاستيلاء على كامل مدينة حلب ذات الأهمية الكبيرة، أو التسبب في هزائم كبيرة ضد أي جماعة من الجماعات المعارضة للنظام، بما في ذلك تنظيم داعش الإرهابي. أما عبارة «انفراجة جذرية ومهمة» فهي من قبيل المبالغات اللفظية.
ولقد تلاعب بوتين، رغم ذلك، بالغرض الأرجح من إعلانه السياسي الأخير. حيث قال: «أود أن يكون قراري اليوم بمثابة إشارة جيدة لجميع أطراف النزاع ».
كان من السهل على روسيا إخفاء تحركات القوات، لأنه ما من أحد، باستثناء نشطاء حقوق الإنسان المحليين، لديه القدرة على مراقبة الوضع على الأرض، وحتى من يراقبون الوضع على الأرض فإن قدراتهم في ذلك محدودة جدا. وقال الرئيس بوتين إن القاعدة الجوية الروسية في مطار حميميم بمدينة اللاذقية السورية لا تزال مستمرة في العمل، كما هو الحال تماما بالنسبة للقاعدة البحرية الروسية في مدينة طرطوس الساحلية، وذلك من أجل إنفاذ قرار وقف إطلاق النار ومراقبة العملية السلمية. وسوف يكون من المحال تماما تحديد على وجه الدقة مقدار القوات أو نوعية الأسلحة التي سيتم سحبها من روسيا، بسبب أن روسيا لا تتمتع بالشفافية الكاملة، إزاء نوع أو كم القوات التي أرسلتها أول الأمر إلى سوريا.
وكما هو الحال في أوكرانيا بين عامي 2014 و2015، بعث الرئيس الروسي بإشارة تفيد بأنه مستعد للتفاوض، ولكنه بشروطه هو. ففي أوكرانيا، اشتملت مثل تلك الشروط على وجود حكومة محلية موالية لموسكو، ونشر الميليشيات في شرق البلاد. وفي سوريا، فهو يطالب بمقعد في مفاوضات العملية السلمية للرئيس الأسد.
وفي كلتا الحالتين، تعد هذه الشروط غير مستساغة من الجانب الآخر. ففي أوكرانيا، قد لا يصل قرار مينسك الثاني إلى مستوى التنفيذ الكامل - وقد يستمر الوجود العسكري الروسي إلى أجل غير مسمى هناك، كما هو الحال تماما في الصراعات المجمدة. أما في سوريا، فلن يكتفي بوتين بالجلوس ومراقبة نظام الأسد وهو يتهاوى من خلال المحادثات. وحتى تتمخض الصفقة عن نوع من الاتفاقات المقبولة لديه، فهناك على الدوام إمكانية أن تعاود روسيا الدخول في خضم الأحداث.
وكما أن بوتين لم يعترف على الإطلاق بأن الوحدات العسكرية الروسية، شاركت في القتال على نطاق واسع داخل أوكرانيا، فإنه لم يُعلن أبدا كذلك عن نيّة روسيا قصف أي أهداف داخل سوريا باستثناء مواقع تنظيم داعش. ومع ذلك واصلت مقاتلاته الحربية في قصف مواقع قوات المعارضة، التي ليست جزءا من محادثات السلام بالأساس. ورغبة بوتين في سحب قواته، حتى لو من خلال الكلمات الجوفاء، مع استئناف محادثات السلام، يعد من قبيل الاعتراف غير المباشر بأن «داعش» لم يكن هدفه الأول أبدا داخل سوريا.
تملك كل من روسيا والولايات المتحدة مصالح مشتركة في توحيد القوات السورية في الحرب ضد تنظيم داعش. ومع ذلك، فلقد تضاربت رؤاهما حول مستقبل سوريا نفسها. قد يكون قرار الانسحاب الروسي تسبب في ارتفاع سعر صرف العملة الروسية مقابل الدولار، ولكن من الأرجح أن بوتين لم يغلق ملف هذه الحرب حتى الساعة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»