جستن فوكس
TT

القرن الـ15 يعود من جديد

لا بد أنك سمعت أشخاصًا وهم يعقدون مقارنة بين الأزمة المالية في عام 2008 وتداعيات فترة الكساد الكبير الذي وقع ثلاثينات القرن الماضي. مطلع هذا الشهر، أعربت عن اعتقادي بأن حالة الذعر التي سادت عام 1893 تمثل فترة أخرى مشابهة يمكن الرجوع إليها عند عقد مقارنات.
الآن، طرح المؤرخ بيتر فرانكوبان، الأستاذ بجامعة أكسفورد، أزمة مالية عالمية أخرى يمكن إضافتها لقائمة المقارنات، وذلك في ثنايا كتابه «الطرق الحريرية: تاريخ جديد للعالم».
الملاحظ أن الأزمة التي سببتها سلسلة من العوامل تحمل داخلها أصداء أحداث تعود إلى 600 عام ماضية، وهي: أسواق تعاني تخمة في التشبع، وتراجع قيمة العملة، وحدوث ميل في ميزان المدفوعات. ولم يكن السبب وراء ذلك حدوث تخمة للأفراد أو تبدل الأذواق، وإنما تمثلت المشكلة في حدوث خطأ في آلية التبادل؛ فأوروبا تحديدًا لم يكن لديها ما تقدمه مقابل المنسوجات والخزف والتوابل التي كانت تتميز حينها بقيمة عالية. ومع إنتاج الصين لكميات أكبر مما يمكنها بيعه بالخارج، كانت هناك عواقب يمكن التكهن بها عندما تتلاشى القدرة على الاستمرار في شراء السلع.
خلال كتابه، تحدث فرانكوبان عن فترة اختلال اقتصادي شهدها القرن الـ15 أصبح يشار إليها الآن باسم «مجاعة السبائك الكبرى». أيضًا، أطلق عليها «الكساد الاقتصادي لعصر النهضة» و«الكساد الكبير في أواخر العصور الوسطى».
على أي حال، كانت فترة عصيبة. وفي كتابه، أشار فرانكوبان إلى أنه في تلك الفترة حدث نقص بالأموال، وانكمشت الاقتصاديات، وتولدت قناعة لدى بعض الأوروبيين من أن العالم يقترب من نهايته. وداخل أكبر اقتصاديات العالم، انفجرت فقاعة:
داخل الصين، لم يتلق المسؤولون الحكوميون رواتب مناسبة، الأمر الذي أدى لتفجر فضائح فساد باستمرار وافتقار الكثير من الأجهزة الرسمية للكفاءة. الأسوأ من ذلك، أنه حتى لدى تصحيحه وتقييمه على نحو مناسب، عجز دافعو الضرائب عن ملاحقة الإسراف غير العقلاني لحكومة مصرة على الإنفاق على مشروعات فخمة بناءً على اعتقاد بأن عائداتها ستستمر في الارتفاع ، الأمر الذي لم يتحقق.
انخفضت أعداد السكان جراء الأوبئة والمجاعات والحروب، ما يعد واحدًا من الأسباب المحتملة وراء الأزمة. وربما يتمثل عامل آخر في انخفاض درجات الحرارة عالميًا، ومع ذلك، استحوذت «مجاعة السبائك الكبرى» - في إشارة إلى أن نقص الذهب والفضة كان يعني أن عرض المال عجز عن مواكبة الطلب - على النصيب الأكبر من الاهتمام الأكاديمي (من قبل مشككين ومؤيدين).
كما أن هذا العنصر تحديدًا من الأزمة الاقتصادية التي ظهرت بالقرن الـ15 أكثر ما يبدو على صلة بما نواجهه اليوم. حاليًا، لم يعد الذهب والفضة أساس المعروض من المال، وأصبح باستطاعة المصارف المركزية، نظريًا، إنتاج كل الأموال التي تحتاجها. إلا أنه بصورة ما أو بأخرى، انتهينا لوضع تلجأ فيه الدول إلى إجراءات متطرفة لدفع الأفراد لإنفاق المال، في الوقت الذي بدأت التجارة العالمية في التداعي مع إنتاج كميات من المنتجات تفوق ما لدى الأفراد استعدادًا أو قدرة على شرائه. ويبدو الأمر الآن كما لو أننا نعاني من مجاعة سبائك جديدة - حتى ولو كان هذا الأمر مستحيلاً.
وكان من شأن ارتفاع أعداد السكان، وتحسن المناخ، والظروف السلمية نسبيًا تمكين أوروبا من التعافي تدريجيًا من الكساد خلال النصف الأخير من القرن الـ15. بعد ذلك، جاء اكتشاف الأميركتين - الذي أسهم في أمور عدة منها توفير معروض جديد هائل من الفضة، ما وضع نهاية حاسمة لمجاعة السبائك - لتبدأ بذلك حقبة جديدة من الرخاء والطموح لأوروبا الغربية. وفي تلك الأثناء، انكفأت الصين على نفسها، ودخلت في حقبة طويلة من الجمود الاقتصادي.
إذن، ما الدرس المستفاد من كل ما سبق؟ ليس الكثير؛ ذلك أننا قبل أي شيء نتحدث عن القرن الـ15. ومع ذلك، يبقى من المذهل أن نعلم أن تفاوت التوازن بين الصين والغرب سبق أن تسبب في مشكلات من قبل، وأن نجد في التاريخ ما يذكرنا بأن قضايا العرض والمال تشكل عنصرًا مستمرًا في التقلبات الاقتصادية.
ومثلما أوضحت كارمن رينهارت وكينيث روغوف في كتابهما «هذه المرة الوضع مختلف: ثمانية قرون من الأخطاء الاقتصادية»، الذي حقق أعلى مبيعات، فإن العالم يمر بمثل هذه الأزمات منذ العصور الوسطى، على الأقل. وعادة ما تستغرق الاقتصاديات وقتًا طويلاً للتعافي منها، وأحيانًا تأتي هذه الأزمات بمثابة تمهيد لتحولات كبرى في ميزان القوى الاقتصادية العالمية. ولا يسعني سوى التساؤل عما سيكتبه الناس عن مشكلاتنا اليوم بعد 600 عام من الآن.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»