طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

يا قلبي كفاية دق!

قال فريد الأطرش للشاعر الغنائي فتحي قورة إنه يريد أغنية تبدأ بهذا المقطع «يا قلبي كفاية دق» ليقدمها في فيلمه «شاطئ الحب»، ومنحه «العربون». دهش قورة رغم أنه أدخل المبلغ مباشرة إلى جيبه، وقال بلهجة تحمل قدرا من السخرية: «عندما يتوقف القلب عن الخفقان فإن هذا لا يعني سوى انتهاء الحياة». وأسمعه أكثر من مطلع جديد لأغانٍ قد تروق واحدة منها لفريد لعله يثنيه عن تلك الفكرة التي رآها وقتها عبثية جدا، إلا أن فريد أخبره أنه لو لم يكملها فسوف يستعين بآخرين. وخاف شاعرنا أن يطير منه العربون، ومن المعروف أن قورة كان واحدا من أمهر شعراء الأغنية في زمانه، حتى إن الأديب الكبير يحيى حقي أطلق عليه لقب «بهلوان الوزن والقافية». وعلى الفور أكمل الأغنية في بيت فريد «ما دام حبيبك رق / عينيّا قالت أيوه / وأنت بتقولي لأ» وحصل على باقي أجره، والغريب أنها صارت واحدة من أشهر الأغنيات التي لا تزال تتردد في الإذاعات العربية.
في عام 1966 قرر الموسيقار كمال الطويل أن يتوقف عن تلحين الأغاني الوطنية لعبد الحليم حافظ، لأنه وجد أن صديقه القديم تحول في البروفات من مطرب يطيع تعليمات الملحن إلى ديكتاتور هو الذي يعطي الأوامر ويقود الفرقة الموسيقية، وذهب لحليم معتذرا عن التلحين، فأسمعه كلمات أغنية «صورة» التي كتبها صلاح جاهين، قال له الطويل: «الكلمات رائعة ولكني سأسافر غدا خارج الحدود»، واقترح عليه إسنادها لملحن آخر حتى يلحق احتفالات ثورة يوليو، والحفل لم يعد باقيا عليه سوى أسبوعين ويحضره عبد الناصر. قال الطويل إنه ليس لديه مزاج للتلحين، وهنا استمع إلى صوت من داخل صالون عبد الحليم يقول: «هو التلحين بالمزاج؟»، ولم يعرف من هو المتحدث، وغادر مسرعا شقة حليم. وحتى يقطع على الجميع خط الرجعة قرر أن يسافر ليلا، إلا أنه اكتشف أمام مكتب الجوازات أنه ممنوع من السفر بإيعاز من عبد الحليم وتوجيهات مباشرة من شمس بدران وزير الدفاع الأسبق الذي كان هو صاحب الصوت المعترض، اضطر الطويل أمام تلك الضغوط إلى تلحين «صورة»، وتجاوب معها الجمهور. وداعبه وقتها شمس قائلا: «أمّال لو كان عندك مزاج كنت عملت فينا إيه؟».
الفنان أو المثقف من الممكن أن يقول «لا» ولكنه قد يقع تحت ضغط الحاجة فيوافق مثل قورة، أو الضغط السياسي وبطش النظام فيلحن مثل الطويل، هل يؤثر ذلك سلبا على الإبداع؟
المبدع الذي يمتلك الحرفة يستشعر أنه في النهاية سيوقع باسمه على العمل الفني والناس لن يعنيها الملابسات التي فرضت نفسها عليه.
روى لي أحد الشعراء أنه في زمن مبارك استدعوه لكي يكتب أوبريت في احتفالات أكتوبر، فكتب شطرة شعرية تنتهي بنداء لمبارك «عايزين عبور تاني» فاعترض صفوت الشريف وزير الإعلام الأسبق وأحالها إلى «عايشين عبور تاني»، قائلا له: «العريس ح يحضر»، يقصد مبارك، «وعلينا أن نبسطه ونفرفشه».
بالطبع الأوبريت مثل عشرات غيره حقق فشلا ذريعا ومات ومبارك في الحكم بالسكتة الجماهيرية، بينما كتب قورة «يا قلبي كفاية دق» والطويل لحن «صورة» بإبداع راق، ولا تزال الأغنيتان في الوجدان لأن بداخلهما موهبة صادقة فرضت نفسها رغم القيد، ولو كانت الحرية الإبداعية مكفولة لهما لقدما بالتأكيد ما هو أفضل وأحلى!!