عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT
20

أزمة مثقفين وراء الحملات الصحافية

عندما بادرني مذيع «بي بي سي» العالمية بالسؤال عن «ازدواجية معايير حكومة ديفيد كاميرون (البريطانية)»، ابتسمت قبل أن يكمل السؤال. فقد استرجعت مكالمة من الزميل مشاري الذايدي يستفسر عن الخلفية الحقيقية «لحملة صحافة بريطانيا خاصة اليسارية ضد المملكة العربية السعودية».
ملخص سؤال المذيع ازدواجية معايير حكومة بلاده لأنها لا تشمل السعودية في قائمة بلدان تستهدفها حملة دبلوماسية لإلغاء أحكام الإعدام كعقوبة قضائية في المحاكم.
ولست هنا بصدد الدفاع عن العقوبة.
للسعودية دبلوماسيوها الأكفاء فلا حاجة للدفاع عنها، فغرضي حماية بيئة قضيت فيها 52 عاما هي الصحافة، حمايتها من السطحية ومن استخدامها أداة سياسية وآيديولوجية.
أجبت المذيع بأن أميركا تغيب أيضًا من قائمة دبلوماسية إلغاء عقوبة الإعدام رغم أن أغلب ولاياتها تنفذ الإعدام بوسائل لا تجدها إلا في متاحف وسائل الرعب في أوروبا مثل الحرق بالكرسي الكهربائي أو تجميد العروق بالحقن السامة.
وتحجج المذيع بأن «أميركا قانونها وضعي، لكن السياسة البريطانية تعامل السعودية بمكيال يخالف إيران التي تعتمد الشريعة الإسلامية».
وأجبت أن القضية تشمل بلدانًا إسلامية أخرى في دائرة أكثر اتساعًا من السعودية وإيران وأشرت لمقابلة وزير الخارجية، فيليب هاموند الإذاعية، قبلها بساعتين فقط قائلا: «الدبلوماسية والسياسة هي فن الممكن، ومن العبث محاولة إقناع بلدان دستورها هو الشريعة الإسلامية مثل باكستان وإيران والسعودية بإلغاء العقوبة، فلن يلغوها إلا إذا أفتى علماء دينهم بذلك وليس الأمم المتحدة أو العالم كله». إجابة واقعية من سياسي هادئ الطبع، ورحم الله رجلا عرف قدرته السياسية.
وفي برنامج إذاعي قبلها بيومين، ذكرت فقرة المقدمة أن تنفيذ حكم الإعدام في عدد من المدانين قضائيا في المملكة خطوة سياسية موجهة ضد إيران، بإعدام نمر النمر (دون ذكر أنه مثل أمام محكمة بالقوانين السعودية بينما تجاهلت الفقرة بقية المدانين في قضايا إرهابية). واتصل المذيع تليفونيا بالسير جون جينكينز، سفير بريطانيا السابق في الرياض، فذكر المستمعين بأن عدد الإعدامات التي تنفذ في إيران، وبعضها بلا محاكمة، يفوق العدد في السعودية، وهنا «انتهى الوقت المتاح» حسب قول المذيع لينقل الميكروفون إلى إحدى نجمات البث الخارجي لـ«بي بي سي» والتي كانت استهلت تقريرها عن مقابلتها التليفونية مع متحدث من وزارة العدل السعودية بأنها بحثت معه إعدام مواطنين سعوديين وجهت إليهم تهمة الإرهاب (لاحظ «وجهت إليهم تهمة الإرهاب» وليس وجدهم القضاء مذنبين بتهم إرهابية).
وأعود لمقابلتي التلفزيونية، ويكرر المذيع توجيه تهمة ازدواجية المعايير للحكومة البريطانية وتفسيره أن حجم الصادرات البريطانية إلى المملكة والتعاون في المجال الأمني هو وراء ازدواجية المعايير.
التوقيت جدير بالاهتمام فهو عشية رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران بسبب برنامجها النووي، ورفع العقوبات عن إيران «وضمها إلى المجتمع الدولي» جزء من حملة يقودها اليسار البريطاني لعقدين. وقبل شهرين مثلا حدثت مشادة كلامية على الهواء بين عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم ومذيع من «بي بي سي» اتهم قوات السعودية باستهداف المدنيين في اليمن بعد أن كرر البرلماني البريطاني تصحيح التعبير الخاطئ مستشهدًا بوزير الخارجية هاموند بأنها ليست قوات السعودية وإنما قوات تحالف دولي دعما للحكومة الشرعية اليمنية المعترف بها من الأمم المتحدة.
وعودة إلى المحادثة التليفونية مع الصديق الذايدي لأقول له ملاحظتي من خبرة نصف قرن في الصحافة البريطانية: إن الموضة والهوجة ضد السعودية ليس المقصود بها السعودية بل توظيف الأمر كعصا بإلهاب ظهر كاميرون، والهدف إحراج حكومة المحافظين (إذا راجع دارسو الصحافة الأرشيفات سيلاحظون تصاعد الموجة أثناء حكومات المحافظين: إدوارد هيث، مارغريت ثاتشر، جون ميجر، وديفيد كاميرون، وتهدئتها أثناء حكومات العمال: هارولد ويلسون، جيمس كالاهان، وتوني بلير الأولى وتصاعدت في حكومته بلير الثانية لتقاربه مع الرئيس جورج بوش مما اعتبره المثقفون البريطانيون اتجاها محافظا لليمين).
المشكلة في المثقفين البريطانيين؛ فعنجهية المثقفين اليساريين واحتكارهم بفوقية ذاتية حق التفكير نيابة عن المجتمع (من دون أن ينتخبهم أحد) ليس حكرًا على منطقة الشرق الأوسط بل ظاهرة تضخمت في بريطانيا.
أثناء زيارة رئيس الصين وحاجة البلاد الماسة للاستثمارات الصينية، حاول المثقفون إحراج رئيس الوزراء بنشر رسالة في الصحافة تطالب بمقاطعة الصين بحجة حقوق الإنسان في حين أن أيًا من الموقعين لم يزر الصين ولا يعرف عنها شيئًا.
تكرر الأمر أثناء زيارة رئيس وزراء الهند أكبر ديمقراطية في العالم، ومجموعة من ثلاثين مثقفًا وكاتبًا وفنانًا بريطانيًا نشروا رسالة في الصحف اليسارية تطالب بمنع الزيارة بحجة انتهاك حقوق الإنسان.
باستثناء ثلاثة ليس لموقّعي الرسالة علاقة مباشرة بالهند.
الأمر يتجاوز العنجهية إلى إثبات الذات والبروباغندا لأنفسهم كمشاهير وتذكير الناس بأن لهم وحدهم حق التفكير والقيادة وعلى المجتمع أن يتبع.
معظم الناس اعتادوا قراءة الصحف ومشاهدة القنوات التي تتبع خطًا أقرب ذهنيًا وسياسيًا وثقافيًا إلى نظرتهم للعالم.
نسبة مثقفي الصفوة في النفق المعلوماتي information tunnel أو النافذة الضيقة للإطلال على العالم وتجديد مخزونهم المعرفي هي الأكبر بين الشرائح الاجتماعية بقياس التعليم حسب إحصائيات اتحاد الصحافيين.
وسائلهم الصحافية محددة بالترتيب حسب الأولوية: «الغارديان»، فـ«الإندبندنت»، بينما «التايمز»، الأكثر عراقة، في المركز الثالث. ويختارون «بي بي سي» و«القناة الرابعة»؛ أي يفضلون صحافة الصفوة اليسارية. وهي أيضا منابر تعبيرهم ككتّاب ومعدي ومقدمي برامج. تسعون في المائة من المثقفين ينظرون باحتقار لصحف الطبقتين دون الوسطى والصحافة الشعبية المفضلة لـ95 في المائة من القراء.
والموضة إهانة زعيم الصين الذي تستثمر بلاده 49 مليار دولار في محطات الطاقة البريطانية، والمطالبة بإلغاء زيارتي زعيمي الهند ومصر والحملة على السعودية من جانب مثقفين لم يزر معظمهم هذه البلدان بل يحصلون على معلومات secondhand أو «روبابيكيا» كتبها صحافيون زائرون «سياحة» أو يتبعون موضة فكرية من النفق المعلوماتي لمثقفي اليسار.
مراسل هذا التيار يختار من الفاتحة كلمة «الضالين» فقط كمضمون تقريره عن صلاة الجمعة لتكون «أدلة» لمثقفين لشن حملة على بلد، والأغراض الحقيقية سياسية داخلية وترويج دعائي للمثقفين ونجوم شبكات البث.