روجر كوهين
كاتب, نيويورك تايمز
TT

«فيوتشر ستريت» الباريسي

عاشت أسرة عبد الحميد أباعود – العقل المدبر لهجمات باريس – في «فيوتشر ستريت» بالعاصمة البلجيكية بروكسل. كان منزل الأسرة «فسيحا لكنه متهالك»، مثلما كتب زميلاي أندرو هيغنز وكيميكو دي فريتاس - تامورا في صحيفة «نيويورك تايمز». كان والدا أباعود – وهما مهاجران مغربيان إلى بلجيكا – شخصيتين جيدتين.
كان من المفترض أن يقود «فيوتشر ستريت» إلى حياة أوروبية لائقة، بدلا من الانحراف إلى سوريا والعالم المروع لتنظيم داعش. وكان الشارع – وهو مكان يوفر فرصة للكادحين – وجهة المهاجرين الأتراك والمغاربة والجزائريين القادمين إلى أوروبا منذ ستينات القرن الماضي فصاعدا.
لم يكن أباعود – ابن بروكسل – فقيرا، ولا غبيا، ولا مهمشا. فقد كان يصعد على السلم قبل نزوله إلى الحياة المتعرجة بين سوريا وأوروبا. كما حضر في مدرسة كاثوليكية خاصة «سان بيير دو أوكل» لمدة عام. وأنا عشت في مدرسة «أوكل» بين عامي 1980 و1982. وكانت أوروبا هادئة تماما.
لكن «فيوتشر ستريت» – الشارع المضيء منذ نصف قرن أثناء الانتعاش الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية – أصبح مكانا أكثر غموضا بكثير. ويقع الشارع الآن – بفضل التقنية – بين الوطن والأرض المتبناة في العالم الثرثار والمفتوح والناشز للحضارة الحديثة.
الاقتصاد السيئ هو ليس ما يدفع الشبان المسلمين من «فيوتشر ستريت» إلى طريق الرقة. إنه إذلال للا غاية، والسعي إلى الاحترام، إنه اكتشاف رحلة معقولة من الحداثة المتناقضة إلى قيود الخلافة الحماسية.
لا يعتبر «داعش» قضية اجتماعية، فأنت لا تقتل 130 شخصا في باريس بسبب فقدانك لوظيفتك أو عدم حصولك على فرصة عمل. إنها آيديولوجيا. وبالتالي يجب مقاتلتها بآيديولوجيا مضادة، من بين أمور أخرى. وهذا ما لم تتمكن الولايات المتحدة ولا أوروبا ولا حلفاؤهما العرب والمسلمون من التلفظ به.
ما الذي يقطن هذا المنزل الفسيح المتهالك في «فيوتشر ستريت»؟ في أحد مقاطع الفيديو التي نشرها تنظيم داعش، حث أباعود أقرانه على نبذ «الحياة المذلة» في أوروبا، والبحث عن «الفخر والشرف» في «الجهاد».
يعتبر الإذلال فكرة مسهبة. قد تتبنى أي شيء بدءا من الحرب الجزائرية قبل أكثر من نصف قرن إلى حرب العراق، وقد تستحضر ذكرى غزة، وقد تكون اجتماعية. لكن مهما كانت طبيعة الإذلال، يتم الهروب منه من خلال التمسك بدولة «داعش» قيد التشكيل، وبالأرض التي لا تعترف بالحدود والتي يعاقب أي متشكك فيها بالموت، حيث يكون لكل يوم مهمة مسندة إليه، بجانب تلبية جميع الاحتياجات.
ولا يتعلق الشيء الخطير حول أرض «داعش» بشكل كبير بالإيرادات النفطية، أو مرافق التدريب لديه، أو قربه من الغرب، أو سيطرته على عدة ملايين من الناس. إنما يتعلق بقوة الجاذبية المغناطيسية لديه للمتطرفين، والاستجابة للإذلال الذي جذب أباعود من «فيوتشر ستريت». ولم تكن الولايات المتحدة وأوروبا لتقبل بوجودها في عام 2001. ولم تكن لتقبل بأن الإرهابيين متمركزون في معقل قريب من حدود حلف شمال الأطلسي (الناتو) ويمكن أن يغلقوا بروكسل أو جامعة شيكاغو.
لكن الغرب لم يعد ينشر قوات برية ضد هؤلاء. وكذلك الحال بالنسبة للدول العربية. إنها سياسة عالية المخاطر – عالية جدا، في رأيي. ويعمل «داعش» حول سبل لجعل المذبحة في باريس تبدو متواضعة.
تتشابك أوروبا الآن مع المأزق السوري؛ حيث تتأثر بتدفق لاجئيها نحو الغرب، وبعنفها وبمعركتها. وتعد قصة أباعود تحذيرا في عالم تقع فيه – كما أوضح وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر خلال كلمته في كلية كنيدي بجامعة هارفارد – «قوة تدميرية بحجم أكبر وأكبر في أيدي جماعات أصغر وأصغر من البشر».

* خدمة «نيويورك تايمز»