رزان خليفة المبارك
الأمين العام لهيئة البيئة - أبوظبي
TT

الإخلال بجودة المياه البحرية وأثره على صحة الإنسان

قبل اكتشاف النفط وقبل الثورة الاقتصادية التي صاحبتها الكثير من التغيرات في الهيكل الاقتصادي للمنطقة في أوائل السبعينات من القرن الماضي، كان للبحر أهمية كبيرة في حياة الأسلاف، حيث كان الممر الحيوي الوحيد لتجاراتهم والمصدر الرئيس لمعيشتهم. اعتمد سكان المناطق الساحلية على الغوص للحصول على اللؤلؤ وعلى صيد الأسماك؛ وكانت المياه البحرية تستخدم بشكل واسع لأغراض النقل البحري، حيث كان البحر الممر الرئيس لتبادل السلع كون النقل البحري أكثر الوسائل فعالية في تبادل كميات كبيرة من السلع عبر مسافات طويلة. لدى مياهنا البحرية في المنطقة بصمة اقتصادية وبيئية واجتماعية تربط المواطن بها طواعية وتخلق علاقة ثنائية يؤثر فيها كل منهما على الآخر. ومع الزيادة السكانية في المنطقة وتحقيق الازدهار الاقتصادي وكثرة النشاطات الصناعية، تراجعت جودة المياه البحرية التي تحوي كنوزا من الثروات ما انعكس سلبا على استدامة هذه الموارد المائية التي لا تقدر بثمن.
إلى جانب هذه العلاقة الوثيقة مع الإنسان، للمياه البحرية أثر كبير على المناخ حيث تساعد في تحقيق التوازن المناخي عن طريق امتصاص البحار والمحيطات لغاز ثاني أكسيد الكربون من الجو خلال عملية التمثيل الكلوروفيلي التي تقوم بها النباتات البحرية ويعقب هذه العملية إطلاق غاز الأوكسجين ليذوب في الماء ويتيح التنفس للكائنات الحية في البيئة البحرية.
بحسب تقارير هيئة البيئة - أبوظبي فإن أهم عاملين يؤثران على سلامة وجودة المياه البحرية هما تزايد أعداد السكان والتطور الاقتصادي السريع الذي تشهده دول الخليج في فترات زمنية قصيرة. تزايد عدد السكان يعني زيادة الطلب على الطاقة والمياه وارتفاع نسبة استهلاك الموارد البيئية ما يؤدي إلى زيادة كمية المواد الملوثة. وعندما يجري التخلص من هذه المواد بطرق غير قانونية وينتهي بها الحال في المياه البحرية، فإنها تؤثر سلبا على صحة الكائنات البحرية وبالتالي على صحة الإنسان.
كما أثر النمو الاقتصادي وتبعاته بشكل كبير على سلامة المياه البحرية؛ فتقارير مراقبة جودة المياه البحرية تشير إلى أن الأسباب الرئيسة لتلوث المياه في عامي 2010 و2011 ترجع لإطلاق مياه الصرف الصحي غير المعالجة، ومياه الصرف المعالجة المتدفقة، والرواسب، ومخلفات المصانع، ومخلفات السفن والحطام البحري في المياه. وتؤثر الكثير من الملوثات القادمة من مصادر مختلفة كالمياه واليابسة والهواء على نظافة المياه. وعندما تدخل هذه الملوثات للأوساط البحرية، تحملها رياح المد والجزر إلى الشواطئ والسواحل، الأمر الذي يؤثر على صحة الطيور والحيوانات التي تتغذى على ما تقذفه مياه البحار على الشواطئ. وضمن السلسلة الغذائية، يؤثر ذلك سلبا على صحة الإنسان. فعلى سبيل المثال، تؤدي المياه البحرية الملوثة التي تصل للإنسان عن طريق الغذاء البحري إلى إصابته بأمراض كثيرة كالالتهاب الكبدي الوبائي، والكوليرا، والنزلات المعوية، والالتهابات الجلدية، وغيرها.
كما يؤدي تسرب النفط الناتج عن حوادث السفن أو الناقلات إلى تلوث المياه البحرية ما ينتج عنه تسمم الكائنات البحرية. كما تصرف بعض المصانع مخلفاتها إلى المسطحات المائية وتشمل المواد الناتجة عن الصناعات الكيميائية والتعدينية والتحويلية والزراعية والغذائية ما يؤدي إلى تلوث المياه بالأحماض والقلويات والأصباغ والمركبات الهيدروكربونية والأملاح السامة والدهون والدم والبكتيريا، وغير ذلك من ملوثات تفتك باستدامة الثروة السمكية وتضر بالاقتصاد الذي يعتمد عليها في التجارة والتصدير لينعكس ذلك سلبا على الاستدامة الاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، رصدت هيئة البيئة - أبوظبي 28 حالة للإزهار الضار بالطحالب عام 2012 نتيجة الرياح الترابية الناجمة عن طمر النفايات. وتعد الطحالب التي تعاني من الإزهار خطيرة للكائنات البحرية التي تتغذى عليها لما تفرزه من مادة سامة تقتل الأسماك والقشريات. وعقب تشخيص حالة إزهار الطحالب، جرى إغلاق الشواطئ التي سجلت فيها هذه الحالات لعدة أيام، الأمر الذي أثر على الحياة الاجتماعية لأهل المنطقة. وهنا يجب نشر الوعي بين أصحاب المصانع والمنشآت التجارية بالمخاطر التي تسببها أنشطتهم غير الشرعية التي سيكون لها عواقب وخيمة على مستقبل نشاطهم الاقتصادي.
ولإيمان دولة الإمارات العربية المتحدة بأهمية الحفاظ على سلامة المياه البحرية وجودتها، فرضت الدولة مجموعة من القوانين التي تحد من التلوث إلى جانب تنفيذ بعض المشاريع التي تساعد على حماية البيئة البحرية. من أهم هذه المشاريع مشروع استزراع الأحياء المائية المستدام ويجري فيه استزراع الأحياء المائية (نباتية وحيوانية) في مزارع خاصة بدلا من حصادها من بيئتها الطبيعية. يهدف هذا المشروع إلى حماية الكائنات البحرية المهددة بالانقراض، ويقضي بانتشال الأسماك المهددة بالانقراض من المياه البحرية ووضعها في مزارع مائية تضمن لها العيش في بيئة نظيفة غير ملوثه ما يساعد على استمراريتها. كما يشجع هذا المشروع على استخدام التقنيات المتطورة والفعالة كنظام إعادة تدوير المياه لتخفيف الضغط عن الموارد الطبيعية للمخزون السمكي وتقليل الأثر البيئي لها. ومن أهم مميزاته كذلك تحقيق الأمن الغذائي عن طريق تشجيع استزراع الأنواع المحلية المرغوبة، وتقليل الاعتماد على استيراد المأكولات البحرية، ودعم اقتصاد متنوع في الإمارة، وخلق فرص عمل جديدة. يهدف المشروع أيضا إلى تحديد المناطق الساحلية والداخلية التي ينصح بإقامة مشاريع الاستزراع السمكي عليها مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير من المعايير منها تفادي المناطق التي تعاني من شح في المياه الجوفية.
ومن جهود الحفاظ على جودة المياه البحرية، إصدار مخالفات قانونية بحق أي ناقلة تقوم بتفريغ غير مشروع لمياه الصرف الصحي في المنهولات (المصارف) أو الأراضي البرية وتوثيق ذلك لدى مركز إدارة النفايات بغية تسجيل الحالة ومتابعتها واتخاذ الإجراءات اللازمة. ومن الحلول العملية التي يمكن أن تساهم في معالجة هذه المشكلة إمكانية استخدام المياه المعالجة، التي يجري تصريفها حاليا في البحر، لري مناطق الغابات والمسطحات الخضراء في المناطق البلدية والمباني التجارية ما يعود بالنفع على المياه الجوفية أيضا.
حماية المياه البحرية مسؤوليتنا جميعا، فالنشاطات غير المسؤولة لبعض الجهات التي لا تبالي تضر بالبيئة وتؤثر بالسلب على الجميع، لذا فإن احترام القوانين المفروضة والالتزام بها سيصب في مصلحة المواطن الشخصية من خلال تحقيق الاستدامة البيئية للمياه البحرية. والخطوة الأولى التي من شأنها أن تمهد الطريق لحل فعلي ينهي تعرض المياه البحرية للتلوث هي نشر الوعي بين الأفراد بتداعيات الاستهتار بالبيئة وعدم الحفاظ عليها. الحفاظ على جودة مياهنا عمل جماعي يتحقق بتضافر الجهود على عدة مستويات حكومية ومدنية لحماية ثروة امتدت عبر الأجيال ولضمان استمراريتها للأجيال المقبلة.