سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

سيرة الضباب

عُرفت لندن طوال زمن بأنها «مدينة الضباب»، بعكس جارتها الفرنسية التي عُرفت بـ«مدينة النور». وكان الناس يعتقدون أن التسمية رومانسية، لها علاقة بالطقس البارد والغيم الذي يخرج من الأرض بدل الظهور في الأجواء. لكن أهل لندن نفسها وزوارها كانوا يعرفون أن ليس في الأمر أي رومانسية على الإطلاق: دخان ملوث مسموم خارج من المصانع المنتشرة في كل مكان. ولطالما طالبوا بنقلها إلى خارج المدينة، لكن «لوبي» الصناعة كان له نفوذ «اللوبي» الإسرائيلي في واشنطن.
أهل الخارج كانوا يسمونها «مدينة الضباب»، لكن أهلها كانوا يسمونها بتبرم شديد «الدخنة». وظلت «الدخنة» حتى أوائل الستينات تتحول إلى عتم وكوارث واصطدامات، بحيث بلغ عدد ضحاياها بعض المرات من أربعة إلى خمسة آلاف إنسان. وكانت الحركة تتوقف تمامًا، فتظل السيارات والباصات في مكانها، وينام طلاب المدارس في صفوفهم، وتتوقف حركة المطارات، بل تتوقف حركة الطيور المهاجرة التي لا يعود في إمكانها رؤية النجوم التي تهتدي بها، فتهبط بالآلاف في ريجنت ستريت!
«ضباب لندن: السيرة» للمؤلفة كريستين كورتون، حكاية مثيرة عن تاريخ «الضباب القاتل»، عبر القرون. مأساة لم تنتهِ إلا أواخر الستينات بعد سلسلة من القوانين والضغوط والتقدم الآلي في الإنتاج، إضافة إلى انتقال المصانع إلى أماكن أخرى. عام 1661 أصدر الصحافي جون إيفلن كتابًا يتحدث فيه عن «غيوم من الكبريت والدخان مليئة بالروائح الرديئة والعتم». ولاحظ أن تلك الغيوم «تشكل طبقة من الفراء التي تطفئ أي ضوء». واقترح إيفلن إبعاد المصانع إلى الخارج وتطويق العاصمة بحزام من الزهور الباعثة روائح طيبة. لكن 400 عام مضت قبل أن تتحقق مطالبه وأحلامه.
وخلال هذه القرون اعتاد اللندني أن يغسل ثيابه من الكبريت بعد كل موجة ضباب، أو أن يكون سعاله أسود اللون. وأخذ الكتّاب والشعراء، ومنهم اللورد بايرون، يحولون المحنة إلى رومانسيات. ودرج الكتّاب الزائرون على ذلك أيضًا، ومنهم أحمد فارس الشدياق، الذي عمل في «عاصمة الضباب» فترة طويلة، ولم ينسَ أمين الريحاني الكتابة عن ضباب المدينة عندما زارها أوائل القرن الماضي برفقة جبران خليل جبران، قادمين من باريس، حيث كان جبران يدرس الرسم. البعض كان الضباب بطله. كم ساهم الغيم الأسود في صنع روايات تشارلز ديكنز: النهر! ولكن أيضًا الضباب معذب الفقراء وظالم الجياع ومسبب الأمراض والبؤس. بل أكثر من ذلك، الضباب المجرم حيث تقع السرقات ويرتكب القتلة جرائمهم. سيرة مثيرة تقرأها الآن في جمال لندن ووسطها الخالي تقريبًا من الزحام.