نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

حكاية خطب الرؤساء

أدّعي خبرة في خطب الرؤساء الفلسطينيين.. ياسر عرفات ومحمود عباس.
كان ياسر عرفات يصنف خطابه لفئات عدة، الأولى وهي الأهم، تلك التي يوجهها للعالم وأبرزها خطابه النوعي المميز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1974، لقد جرى إعداد ذلك الخطاب قبل أشهر من إلقائه، وقد شارك في وضع أفكاره عدد كبير من السياسيين الفلسطينيين والعرب، وزينه محمود درويش بعبارات أعطت للخطاب بعدًا ثقافيًا أثرى البعد السياسي ورسخه في الذاكرة حتى يومنا هذا وإلى أمد بعيد.
الفئة الثانية هي الخطب السنوية التي كان يلقيها في عيد الثورة، وكانت تعد قبل شهر على الأقل من خلال لجنة فلسطينية خالصة وكانت مسوداتها تمر على كثيرين من المفكرين وذوي الرأي وكان يميزها عن غيرها كثرة الآيات القرآنية والوقائع التاريخية وتسميات الأعوام بما يشيع الأمل في النفوس ويعدّ المواطنين لعام جديد من الإنجازات والتحديات.
أما الفئة الثالثة فكانت مخصصة للاحتفالات الشعبية الصاخبة والجنازات التي كان يشارك فيها جميعا، غير أن مضمونًا واحدًا كان يربط بين هذه الخطابات جميعا سمته الحذر، انطلاقًا من مبدئه الذي فرضه على كل المتحدثين الفلسطينيين حين كان يطلب منهم الامتناع عن الشطط الكلامي وكان مألوفا عنه أن يقول ارحموا شعبكم فالكلام من دم.
وفي زمن خليفته الرئيس محمود عباس، تعزز بادئ الأمر خطاب الاعتدال، فابتعد الرجل عن الجمل الشعبوية التي إن قبلت في مظاهرة فلا تقبل في دوائر صنع القرار وتعرض للوم شديد من قبل الفصائل وحتى من بعض أتباع فصيله حين كان يقول إن بديل المفاوضات هو المفاوضات، ولم يخلُ خطابه يومًا من التأكيد على نبذ العنف واتباع الوسائل السياسية والسلمية لدعم الموقف السياسي المعتدل واستقطاب أصدقاء لهذا الموقف من داخل معسكر الخصوم قبل الأصدقاء، وقد كنت أحد الكتّاب الرئيسيين لخطب الاعتدال عند الرئيسين، ما جعلني قريبًا من أن أكون خبيرًا في هذا المجال وأن أفهم السطور وما بينها حين أستمع إلى خطاب لم أشارك فيه لا صياغة ولا مضمونًا، وكنت أحس بأن لغة التشدد طارئة على عباس، أما لغة الاعتدال المتراجعة فعلى قلتها هي الأصدق والأكثر واقعية، ولقد أصغيت باهتمام شديد لخطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا ملاحظات لي على الشكوى المريرة التي تميز بها الخطاب فهذا هو واقع الفلسطينيين مع الإسرائيليين أي واقع الضحية المستفرد بها مع جلاد يراكم شعبية كلما ألهب ظهر الضحية بالسياط، وكل الوقائع التي استشهد بها للتدليل على وحشية الاحتلال كانت قد عرفت في حينه وأدينت إسرائيل في كل المحافل عليها وأظهر العالم بكل ما لديه من وسائل تضامنه وتعاطفه مع الفلسطينيين ومعاناتهم وتسابقت الدول والشعوب في تقديم التعازي والحث على الصبر والتحمل.
كان خطاب عباس أمام حائط المبكى العالمي صادقًا ومؤثرًا وحتى بليغًا، إلا أن ما دمر خلاصات الخطاب تلك الحملة الغشيمة التي سبقته قبل إلقائه، فقد قيل عن الخطاب ما لا يمكن أن يتضمنه في زمن الحسابات الدقيقة واستخدمت في وصفه قبل أن يتلى عبارات أرضت دعاة التطرف في الساحة الفلسطينية وأخافت العالم، وشاع قول في وصف الخطاب بأنه قنبلة ستنفجر من على أرفع وأهم منبر دولي جماعي في الكون، ولك أن تتخيل الاستنتاجات المتعددة لهذه القنبلة وأين ستقع شظاياها ومن هي الأجساد التي تتلقاها، فاستجلب أصحاب هذا المصطلح غير السياسي وغير الواقعي وغير المسؤول ضغوطًا إضافية على الرئيس المحاصر ما بين أهل بيت يفرشون له طريق الخطأ باللغة، وخصوم يتصيدون الخطأ لمضاعفة التنكيل والقهر وشتان ما بين أن ينتظر العالم خطابًا وبين أن ينتظر قنبلة ذلك أن الوضع الدولي الحالي يرى القنابل على أرض المعارك المحتدمة ولا يرى غير الكلام اللطيف من على المنابر الدولية.
إنني أعرف الرئيس محمود عباس حق المعرفة وأعرف واقعيته وحذره القديم في استخدام اللغة حتى إنه حين كان يعمل، اختلف عن أقرانه الفلسطينيين بأنه كان قليل الكلام، وفي حالات كثيرة ألمس أن هنالك جُمَلاً في خطبه غريبة عن وعيه وتحليله وموقفه ومن الصعب أن أصدق أن محمود عباس يعرف لفظ القنبلة والزلزال فكيف يستخدمه؟!