لعلك لاحظت رنة الحزن في كلماتي عن الضحك والنكتة والفكاهة، كما لو أني أتكلم عن صديق قديم اختطفه الموت من بيننا، فلم يتبقَّ منه سوى ذكريات ضاحكة قديمة، أحاول استعادتها فلا ينتج عن محاولاتي إلا مزيد من المرارة والاكتئاب. المنطقة مشتعلة بالموت والقتلة المجانين والغرقى الذين يحاولون الفرار بجلدهم، وأنا منشغل بالحديث معكم عن الفكاهة.. أمر غريب، أليس كذلك؟ أعتقد أنه جاء الوقت لكي أعترف بأمر لا بد أن عددًا كبيرًا منكم قد كشفه.. لقد حاولت الفرار مؤقتًا من كل ما يحدث حولي، فلجأت، كأي هارب، إلى عالمي القديم. غير أنني بدأت أشعر بالخجل؛ هل أنا بحديثي عن الفكاهة والنكتة في هذا الجو البائس، أقوم بالتخفيف عن الناس، أم هي محاولة لإنقاذ جهازي العصبي والنفسي من حمولة الأحزان الثقيلة؟
كل دقيقة تمر في مصر تحمل معها خبرًا عن شرطي سقط قتيلاً على الأرض، أو جندي سقط على الحدود السعودية، أو مدنيين في كل مكان مزقت المتفجرات أجسامهم.. ثم مساجد تنفجر لأنها شيعية أو لأنها سُنيّة، ثم تلك المصيبة الجديدة؛ الغرقى من ركاب الزوارق غير الصالحة أصلاً للإبحار، يريدون الهرب إلى الغرب (فاكر الغرب الإمبريالي الشرير ابن ستين في سبعين.. فاكره؟). هم ليسوا قتلة، ولا يريدون أن يقتلوا أحدًا، لذلك هربوا ليقتلهم البحر. الواقع أن ما يحدث لنا وحولنا ليست له صلة بأي دين أو ملة، إنها حركة تمرد على حضارة البشر، ورغبة أكيدة في استعادة مرحلة من مراحل التاريخ كان القتل فيها هو النشاط الرئيسي للإنسان. أخطر ما في هذه الحرب التي نخوضها الآن، أنها تحولنا نحن أيضًا إلى قتلة. عدوك يضيّق عليك الزاوية، بل كل الزوايا، ليرغمك على أن تقتله.. هو يعرض عليك خيارين فقط؛ أن يقتلك.. أو تقتله.
ترى ماذا كان الخطأ؟ ما الأخطاء التي ارتكبناها في مجالي التربية والتعليم نتج عنها تحويل هؤلاء الناس إلى وحوش رافضة للأخلاق، رافضة للدين، رافضة للحضارة، رافضة للعقل والمنطق؟
قال الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ، إن «الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا». الواقع أننا التقينا هذه الأيام.. اتضح أن الغرب أيضًا ينتج الوحوش نفسها التي ننتجها نحن.. اتضح أن حضارته التي يحلم كثيرون منا بالوصول إليها، فيها مغارات صالحة لتربية الوحوش الباحثة عن ميادين تثبت فيها وحشيتها. هي ليست مشكلتنا وحدنا إذن بوصفنا سكان هذا الجزء من العالم، إنها مشكلة سكان الأرض في هذه المرحلة من التاريخ.
* المقال الأخير الذي بعث به الراحل قبل يوم من وفاته