أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

لغز كوربين

حتى شهور قليلة مضت، لم يكن اسم جيرمي كوربين قد نما لمسامع الغالبية العظمى من قبل. وحتى أن القليلين الذين سمعوا به، ومن بينهم كاتب هذا المقال، عرفوه فقط كشخص غريب الأطوار وعضو بمجلس العموم البريطاني له ميول اشتراكية، وفي الوقت ذاته يعشق البذخ والكافيار. وفي عصر لا يعتبرك المجتمع فيه شخصا له أهمية سوى إذا ظهرت عبر شاشات التلفزيون، فإن كوربين حرم من الظهور على شاشات المحطات البريطانية، واقتصر ظهوره على «بريس تي في»، التي يديرها الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، و«رشا توداي» التابعة للكرملين.
داخل مجلس العموم، غالبًا ما صوت ضد حزبه، لكن نادرًا ما كان أحد يعبأ بذلك. كما أقام اتصالات اجتماعية ودية مع أعضاء مكتب «المرشد الأعلى» في لندن، ناهيك عن عملاء تابعين لـ«حزب الله» و«حماس» و«الإخوان المسلمين» وجماعات الضغط الموالية لبوتين و«حركات التحرر» من اليابان إلى بيرو.
عارض كوربين الإطاحة بـ«طالبان» في كابل، وصدام حسين ببغداد. وطيلة عقود، طرح نفسه باعتباره المضاد للإجماع المتهافت الذي هيمن على الساحة السياسية الأوروبية لعقود. في الواقع، من زاوية ما، يمكن النظر إلى كوربين باعتباره نسخة أنيقة من صديق صدام حسين القديم، جورج غالواي.
ورغم كل ذلك، يبدو كوربين حاليًا مؤهلاً بقوة لتولي زعامة حزب العمال البريطاني، وبالتالي رئيس وزراء محتملا. وبعد أن تناولت هذه الفكرة ببعض الاستخفاف، يبدو أن المؤسسة البريطانية بدأت تشعر الآن بالفزع حيال رجل لم تكن له أهمية تذكر منذ بضعة أسابيع.
والتساؤل هنا: ما السبب وراء هذا الفزع الذي يثيره كوربين؟
في الواقع، الإجابة بسيطة: إنه يذكر الجميع بأنه في ظل النظام الديمقراطي، تدور السياسة برمتها حول صدام الأفكار والسياسات، بما في ذلك أكثرها غرابة، حتى يتشكل إجماع.
إن كوربين سياسي آيديولوجي في عصر الفيتيشية البراغماتية.
اللافت أن كوربين نفسه لا ينظر لنفسه باعتباره ماركسي أو لينيني الهوى، وإنما كشخص مناهض للإمبريالية، والتي تعني في الوقت الراهن، مناصبة الولايات المتحدة العداء بشدة.
وعليه، فإن كل ما يحتاج كوربين لفعله هو رؤية على أي الجوانب تقف الولايات المتحدة حيال أي قضية، ثم اتباع الموقف المضاد.
ويشعر كوربين بالإعجاب حيال علي خامنئي لأنه من المفترض أنه «يقف بوجه الأميركيين». وقد ذرف الدموع على رحيل الملا عمر وصدام حسين لأنهما سقطا ضحية لـ«الإمبريالية» الأميركية. كما وصف قتل أسامة بن لادن بأنه «مأساة»، لكن هذا ليس لأن بن لادن له مكانة خاصة في قلبه، وإنما لأن الأميركيين هم من قتلوه.
بالنسبة لكوربين، فإن إسرائيل كيان مقيت ليس لأنها يهودية أو حتى «استولت على أراضٍ فلسطينية»، وإنما لأنها من المفترض حليف للولايات المتحدة. في المقابل، يلتزم كوربين الصمت إزاء مذبحة الشيشانيين على يد روسيا أو الإيغور من جانب الصين أو الروهينغيا من قبل الفاشيين البورميين.
في الواقع، كوربين لا يعارض التحالفات العسكرية - إنه «الناتو» فقط الذي يرغب في إلغائه، لأنه يعتبره أداة في يد الولايات المتحدة. (وتكمن المفارقة في أن حكومة تنتمي لحزب العمال هي من أسست «الناتو» رغم تردد الأميركيين حيال الأمر!) وبالمثل، لا يعارض كوربين امتلاك الدول لأسلحة نووية، وليست لديه مشكلة في الترسانات النووية الروسية والصينية أو الطموحات الإيرانية المزعومة لصنع قنبلة نووية.
في المقابل، يدعو كوربين لنزع التسليح النووي أحادي الجانب بالنسبة لبريطانيا لأنها حليف جوهري لأميركا داخل أوروبا.
فيما يخص القضايا الداخلية، لا يعرف الكثير عن أجندة كوربين.
تحدث كوربين عن تأميم عدد من القطاعات، بما في ذلك النقل والطاقة. كما أنه يرغب في بسط سيطرة الدولة على المصارف والأسواق المالية.
ويبقى موقفه حيال أوروبا غامضًا، رغم أنه وصف الاتحاد الأوروبي بعض الأحيان بأنه «ليبرالي جديد» يعارض مصالح «الأفراد العاملين».
كما يسعى كوربين لإلغاء مجلس اللوردات ومجلس بريفي و«الأعداد الضخمة المشاركة في صنع القرار»، من دون أن يحدد كيفية تحقيق ذلك.
ومن الواضح أن كوربين نفسه لم يعكف على التمعن في دراسة أفكاره لتحويلها لسياسات جديرة بالثقة بها.
في الواقع، هذا الأمر لا يثير الدهشة، فهو لم يتوقع قط أن يحتل مكانة تجبره على التفكير فيما وراء مجرد الاستجابات العاطفية للقضايا المطروحة على الساحة.
أما ما يثير الدهشة حقًا فهو أن الكثير من الأشخاص، ربما مئات الآلاف، يبدو أنهم اقتنعوا بأفكار كوربين. وربما يكون من بين الأسباب وراء ذلك تنامي الشعور بخيبة الأمل حيال سياسات النخب السياسية عبر أوروبا، حيث ظهرت جماعات مناهضة للمؤسسات الحاكمة، مثل «سيريزا» في اليونان و«بوديموس» في إسبانيا و«الجبهة الوطنية» في فرنسا، لتنافس بجدية على السلطة. داخل المملكة المتحدة ذاتها، استفاد كل من الحزب القومي الاسكتلندي وحزب استقلال المملكة المتحدة من هذا المزاج العام.
وينظر الكثير من المحللين البريطانيين إلى صعود كوربين باعتباره نبأ سيئا للديمقراطية البريطانية. إلا أنني شخصيًا لا أتفق معهم. أولاً، يبدو أن كوربين يمثل مجموعة من الناخبين أكبر بكثير عما توحيه الصورة الكاريكاتيرية له كشخص عاشق لـ«الشمبانيا والكافيار». ومن المهم إفساح المجال كي تعبر هذه المجموعة عن غضبها ومطالبها، حتى الأكثر جنونًا منها، في إطار الديمقراطية البريطانية. والملاحظ أن النظام الانتخابي البريطاني يجبر الأحزاب الكبرى على التصرف كتحالفات كبرى، وبالتالي نجد شخصا مثل كوربين في الحزب ذاته مع آخر مثل بيتر ماندلسون. وينطبق القول ذاته على حزب المحافظين.
داخل نظام انتخابي قاري يقوم على التمثيل النسبي، يمكن لكوربين أن يترأس حزبا يساريا راديكاليا صغيرا ليس لديه فرصة في الحصول على نصيب من السلطة إلا من خلال تحالف مع أحزاب أخرى.
وإذا نجح كوربين في اجتذاب أعداد كبيرة من المدن الفاضلة التي يتمترسون داخلها إلى داخل الخيمة الكبيرة للديمقراطية البريطانية، فإن هذا سيكون أفضل كثيرًا، ذلك أن جمال الديمقراطية البريطانية يكمن في أنه رغم صعود نجم بعض الأفكار السيئة لبعض الوقت، فإن هذا يسهم كذلك في فضح حقيقتها، ما ينفر الناس منها.