لم يتأزم الوضع في السودان عقب المعارك التي اندلعت في شهر أبريل (مايو) الماضي بين الجيش وقوات «الدعم السريع»، إنما بدأ عقب نجاح الثورة السودانية في إسقاط حكم البشير في أبريل (مايو) 2019، وسوء إدارة المرحلة الانتقالية والأخطاء التي ارتكبتها كثير من الأطراف السياسية والحزبية. صحيح أن الأزمة تعمقت عقب المواجهات المسلحة التي جرت مؤخراً، وبعد أن سالت دماء بين أبناء الشعب الواحد، ودمرت ممتلكات عامة وخاصة، وتعثرت اتفاقات وقف إطلاق النار رغم الجهود التي تبذلها السعودية والولايات المتحدة وأطراف إقليمية ودولية أخرى من أجل تثبيت وقف إطلاق النار.
إن السؤال الأساسي الذي يجب أن يكون محور أي نقاش مستقبلي حول الأزمة السودانية يتمثل في: كيف يمكن لبلد كان يسعى شعبه لتأسيس دولة قانون وانتقال ديمقراطي فوجد نفسه يدخل في حرب دموية؟ وكيف يمكن تأسيس مسار سياسي جديد يتجاوز السابق، ويقوم على ضرورة التوافق على مشروع «رجل جسر« بين المختلفين والمتحاربين؟
إن البداية الخاطئة في السودان ترجع لكون القوى السياسية التي قادت الثورة انطلقت من أن البلد يعيش في ظل مؤسسات دولة راسخة ولكنها استبدادية، وقد تكون الكلمة الأخيرة حقيقية عقب 30 عاماً من حكم البشير، إلا أن المعضلة أن مؤسسات الدولة كانت تعاني من خطر الضعف والانقسام أكثر من الاستبداد، وأن المسار الانتقالي الذي امتد أربع سنوات عمّق من هذا الانقسام والضعف، خصوصاً انقسام المؤسسة العسكرية بين الجيش و«الدعم السريع»، وضعف الأجهزة الأمنية، ووجود فصائل مسلحة خارج مؤسسات الدولة النظامية، وترهل الجهاز الإداري وعدم استقلالية السلطة القضائية وضعفها، وهي كلها تحديات كانت تطلب مقاربة «إصلاحية» تعتمد على العلم وخبرات الدول الأخرى فيما عرف بالإصلاح المؤسسي (Institutional reform)، وليست «ثورية» تعتمد بشكل أساسي على الصوت الاحتجاجي في الشارع.
لقد اختار السودان مساراً انتقالياً غير توافقي استمر 4 سنوات، وهو ما عنى عملياً أن كل خلاف أو تناقض كان موجوداً بين القوى السياسية، أو بين الجيش و«الدعم السريع»، أو بين المدنيين والعسكريين تعمق طوال هذه السنوات ولم يحل، لأنه لم يتعامل على أن السودان يحتاج إلى مرحلة تأسيس وليس مرحلة انتقالية، وشروط الأولى تختلف جذرياً عن الثانية.
فمرحلة التأسيس تعني أن البلد يحتاج إلى مشروع توافقي يؤسس لمرحلة انتقالية، وهنا سنجد أن الأحزاب السياسية ستحتاج إلى أن تقوم بعمل عكس طبيعتها أي أن تترك مكاسبها الضيقة ورغبتها في النفوذ والسلطة، وهي أمور مفهومة في النظم المستقرة، لصالح تأسيس مبادئ عليا يُبنى عليها المسار الانتقالي وليس العكس، أي أن المسار الانتقالي الذي تحكمه مواءمات وصراعات بين مكوناته المختلفة لا يمكن أن ينتج تأسيساً جديداً وهو ما حدث.
والحقيقة أن ما جرى في السودان أن القوى الحزبية مارست السلوك الطبيعي للأحزاب فبحثت عن مصالحها، وعملت على إطالة المرحلة الانتقالية من أجل تثبيت نفوذها، وقال بعضها نحن لا نحتاج لانتخابات لأننا نمثل الثورة، وتحالف بعضها مع قوات «الدعم السريع»، والبعض الآخر مع الجيش، وظل هناك طرف ثالث مخلص لنقائه الثوري ولكنه لم يقرأ طبيعة المرحلة التي يمر بها السودان بشكل صحيح، ففشلت المرحلة الانتقالية، وتأجلت مرحلة التأسيس.
إن هذه المرحلة تتطلب إما أحزاباً تتحرك عكس طبيعتها أي أن تكون حاملة لمشروع هدفه الأساسي تأسيس النظام الجديد واختيار الصالح العام بصرف النظر عن مدى تحقيق ذلك لمصالحها أم لا، وهو ما لم يحدث وجعل المفكر والوزير السوداني منصور خالد يصف بقدر كبير من التعميم أداء النخبة السودانية المعاصرة بأنه «إدمان الفشل».
والحقيقة أن الوضع الحالي أصبح أكثر تعقيداً بعد المواجهات الدموية التي جرت بين الجيش و«الدعم السريع»، وبعد تعمق الانقسام السياسي وتفجر الصراعات في دارفور بالغرب وفي كردفان في الوسط، وأصبح همّ المواطن السوداني الأساسي هو الأمن والذي لن تحققه إلا قوة نظامية، ولن تجد التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد على مدار سنوات من اجل الحكم المدني نفس الحضور الجماهيري الذي كانت عليه من قبل. صحيح أن انتصار الأمن لا يجب أن يكون على حساب طموحات الشعب السوداني في الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون إنما سيعني أن هناك ثمناً سيدفعه الجميع جراء أخطاء المرحلة الانتقالية.
ولأن المكون العسكري كان شريكاً في فشل المرحلة الانتقالية، وربما يتحمل مسؤولية أكبر لأنه هو الذي خاض حرباً دموية دفع ثمنها الشعب السوداني، فإن هذا سيعني أيضاً أن المكون العسكري لن يكون مهيأً ولا مقبولاً أن يقدم ممثلاً «خالصاً» يعبّر بالكامل عنه أو عن إحدى مؤسساته، كما أن المكون المدني بحسابات أحزابه الضيقة وتحالفات بعضها مع المكون العسكري في السر وإدانته في العلن، ما سيعني أنها لن تكون قادرة على الحكم ولا قيادة المرحلة السياسية الثانية بعد فشل الأولى.
والحقيقة أن الحل سيكون في الرجل أو المشروع الجسر بين المكونات المختلفة، أي إذا كان رجلاً يحمل خلفية عسكرية فلا بد من أن تكون لديه مهارات مدنية وقبول مدني إلى جانب انضباطه العسكري والمهني، أما إذا كان مدنياً فلا بد من أن يكون محل قبول ومصدر طمأنينة للمؤسسة العسكرية وداعماً لتوحيدها ولدورها الأمني، وأن يعي أن الشارع السوداني أصبحت أولوياته هي عودة الأمن أولاً.
الرجل الجسر الذي سيحمل هذا المشروع يجب أن ينطلق من الواقع الحالي وليس من آيديولوجيات سابقة التجهيز يطوع الواقع عليها، إنما المطلوب العكس أي أن يطوع أي أفكار سياسية على الواقع السوداني، وأن يكون محل توافق، ويؤسس لمرحلة سياسية جديدة يعرف فيها كل طرف أنه لن يحكم منفرداً السودان، وأن البلاد لا يمكن أن تعيد تكرار نفس الحالة السابقة التي عرفتها طوال المرحلة الانتقالية الأولى.