توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

استمع إلى المقالة

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الأنماط يملك مقومات ذاتية أو موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين، من 1901 إلى 1920 مثلاً (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة)، وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيراً، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس، وبموازاة هذين، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة، مع نظيرتها في الفترة نفسها من القرن الجديد، أي الفترة من 2001 إلى 2020.

فما الصورة التي نتوقع أن تولد من تلك المقارنات؟ وفي الأساس، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟

أنا لست خبيراً في الاقتصاد، ولذا لا أطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني أعلم أن الاقتصاد ليس عالماً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها «النظام الاجتماعي»، الذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية أعضاء المجتمع. من هنا، فإن السؤال عن مصادر الإنتاج وأنماط المعيشة، يشكل مدخلاً لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للأفراد، وكيف يعاد إنتاج تلك الثقافة أو بدائلها، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي أو السياسي. أما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع، والعوامل التي حركتها أو تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي أن حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90 في المائة من السلوك اليومي للفرد، وهي بالتالي جزء مما نسميه العقل الجمعي. الثقافة العامة لأي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم، وبالتالي فهي مؤثرة جداً في تحديد نوعية الحياة والإنتاج، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه الثقافة لا تبقى على حال واحدة، فهي أيضاً تتحول باستمرار، ولكن ببطء. وحين تتحول، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الأفراد وعلاقتهم ببعضهم، وعلى نوعية الأعمال التي يميلون إليها أو ينفرون منها.

لقد أثرت حتى الآن قضايا كثيرة، لا يتسع المجال لشرح أي منها، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة إلى أننا بحاجة فعلاً إلى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على أسواق العالم. وفدت بعد اتصاله بالعالم أو تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جداً في تحديد ما هو راسخ الجذور، ثم تطويره إن كان قابلاً للتطوير، بحيث يتحول إلى مصدر إنتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتماداً على تفاعلات محلية.

يمكن أن نضرب مثالاً على هذا بالسياحة (بمختلف أغراضها) والزراعة والتعدين، إضافة إلى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى أن كثيراً من المجتمعات العربية يميل إلى التفريط في هذه الموارد، ثم يعيد استيراد وسائل إنتاجها أو منتجاتها من السوق الدولية. نحن الآن نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر إنتاجها، وأمثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة، وكان الأمثل تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج إلى إضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟ هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك؟ أم ساعدنا في التحرر من عقلية قديمة؟