يتخذ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، حاليًا، خطوات صارمة لتخليص نفسه من سلفه المثير للمشكلات، نوري المالكي. ففي أعقاب تعديل حكومي، تمثلت خطوته الأخيرة في صدور تقرير برلماني يلقي باللوم على المالكي والكثير من كبار القيادات السياسية والعسكرية المعاونة له عن سقوط الموصل في أيدي «داعش»، الصيف الماضي. ومن المقرر إحالة التقرير إلى مدعٍ عام، مما يعني أن العبادي قد يخطط لتقديم المالكي لمحاكمة جنائية. من جهته، يقاتل المالكي في المقابل، حيث أصدر بيانًا عامًا أنكر خلاله ما ورد في التقرير.
وبالنظر إلى أن المالكي تمتع بقدر أكبر من التأييد الداخلي عن العبادي عندما أجبرته الولايات المتحدة، مع رضوخ من قبل إيران على مضض، على الاستقالة من منصبه، فإنه من غير المثير للدهشة أن يرغب العبادي في تعزيز سلطته عبر التخلص من المالكي تمامًا.
بيد أنه فيما وراء الاهتمام بتعقيدات المشهد السياسي العراقي، ما الذي يمكن أن يدفع باقي العالم للاهتمام بمحاولات العبادي التخلص من المالكي؟
تكمن الإجابة في تداعيات الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران، المعروض حاليًا على الكونغرس، ومع ذلك تتعامل معه قوى إقليمية باعتباره أمرًا واقعًا. في الحقيقة، تعكس إجراءات العبادي فيما يخص المالكي إعادة ترتيب المشهد السياسي الإقليمي في ضوء الاتفاق المبرم مع إيران. ورغم أن المالكي كان ينظر إليه في وقت مضى كشخص موالٍ لإيران من جانب العراقيين السنة والولايات المتحدة، فإن العبادي يتبع اليوم نهجًا جديدًا يراهن من خلاله على أن المصالح الأميركية والإيرانية متوافقة بصورة وثيقة على نحو لن يجعل من الإبقاء على عراق موحد ومتعدد الطوائف هدفًا مقدسًا كما كان من قبل. أما الإيرانيون، فإنهم على ما يبدو قد تخلوا عن المالكي وتركوه يواجه مصيره.
وللتعرف على ما يجري، علينا تأمل ما واجهه المالكي وأخفق فيه عند التعامل مع «داعش». إن سقوط الموصل يحمل في طياته الكثير من الدروس، منها أن الجيش العراقي، وهو قوة مختلطة من شيعة وسنة، انهار بصورة كارثية، حسبما يؤكد التقرير البرلماني.
في الواقع، تجاوز السبب وراء الفشل الجوانب الفنية، ذلك أن الشيعة داخل الجيش ربما كانوا موالين للمالكي، لكنهم لم يتقبلوا فكرة الموت دفاعًا عن المدينة التي ينتمي غالبية سكانها للسنة. أما أفراد الجيش من السنة، فإنهم شعروا بالصدمة حيال الانطباع الذي تولد لديهم بأن المالكي يدير العراق نيابة عن إيران، مما جعلهم غير مستعدين للتصدي لمهاجمين سنة من «داعش». في نهاية الأمر، من الواضح أن الفشل في الدفاع عن الموصل ليس سوى فشل في قيادة الموصل، وفي خطته للحفاظ على العراق موحدًا تحت السيطرة الشيعية.
يرى البعض أن العبادي لم يقدم حتى الآن أداء أفضل عن المالكي في مقاومة المتطرفين؛ ففي مايو (أيار)، وفي ظل رئاسة العبادي للحكومة، سقطت الرمادي، بالصورة المخزية والمهينة التي سقطت بها الموصل العام السابق. إلا أن العبادي يدرس على ما يبدو اتباع نهج مختلف حيال المشكلة عما اتبعه المالكي. ويبدو أن استراتيجيته تقوم على عنصرين، يعتمد كلاهما على تنامي التعاون الأميركي - الإيراني.
أولاً: يقر العبادي نشر ميليشيات شيعية تتولى إيران تدريبها وقيادتها، بدعم من ضربات جوية أميركية، ضد «داعش». المؤكد أن عملية اجتذاب الأميركيين والإيرانيين ليقفوا على صف واحد، سارت ببطء، بالنظر لمشاعر التشكك والريبة المتبادلة. إلا أنه على ما يبدو، فإن العبادي يعتقد، لسبب ما، أن الاتفاق النووي الأميركي - الإيراني يزيد احتمالات تحقق التعاون. في يونيو (حزيران)، توجه العبادي لإيران لحث المرشد الأعلى، علي خامنئي، على الاستمرار في دعم القتال ضد «داعش»، وأيضًا شارك في اجتماعات مجموعة السبع في النمسا بهدف حشد تأييد باراك أوباما لتقديم مزيد من الدعم في هذا القتال. كما حث الولايات المتحدة على بذل المزيد من الجهود لتدريب وحدات الجيش العراقي، علاوة على ترحيبه بنشر مستشارين أميركيين قد ينسقون جهودهم مع قوات تعمل تحت قيادة إيرانية.
في الحقيقة، من قبيل التفاؤل الاعتقاد بأن الجهود الأميركية والإيرانية المشتركة بإمكانها إلحاق الهزيمة بـ«داعش» في العراق، لكن تبقى الحقيقة أن هذا من المتعذر إنجازه من دون وجود قوات عربية سنية برية. وحتى الآن، لا يتوافر أمام العبادي سبيل واضح للقيام بذلك.
ومع ذلك، وعلى خلاف الحال مع المالكي، ينوي العبادي تجنب تحمل اللوم إذا ما فشلت جهود القتال ضد المتطرفين - وذلك لأنه يسعى بجد لكي يظهر للجانبين الأميركي والإيراني أنه يحاول حشدهما لمعاونته في الحرب. بمعنى آخر، في مساعيه للتحوط ضد استمرار الفشل في هزيمة «داعش»، يعتمد العبادي على تعميق تحالفه مع المصالح الأميركية والإيرانية.
كما يملك العبادي شيئًا آخر لا يملكه المالكي: استراتيجية يمكن اللجوء إليها حال استمرار بقاء «داعش» على المدى المتوسط بالعراق. ويبعث العبادي برسائل إلى العراقيين الشيعة، وكذلك إيران والولايات المتحدة، مفادها أن بمقدوره حكم العراق حال تمزيقه، بمعنى حكم العراق مع استثناء المناطق السنية الخاضعة لسيطرة المتشددين والاعتراف بالحكم الذاتي الفعلي لكردستان العراق.
وقد أشارت جهود العبادي الإصلاحية خلال الأسابيع القليلة الماضية، التي شهدت فقدان سياسيين سنة بارزين لمناصبهم، في هذا الاتجاه. كما ألغى العبادي منصب نائب رئيس الجمهورية الذي ضم ثلاثة أفراد منهم المالكي. كما أن التقرير البرلماني حول سقوط الموصل ألقى باللوم على عاتق اثنين آخرين من السياسيين السنة البارزين، هما سعدون الديلمي، القائم بأعمال وزير الدفاع في عهد المالكي، وأثيل النجيفي، حاكم محافظة نينوى سابقًا وشقيق أسامة النجيفي، أحد نواب الرئيس المفصولين.
أما الرسالة التي يحملها كل ذلك؛ فهي أن العبادي سئم من استراتيجية المالكي، التي جرى إقرارها في ظل ضغوط أميركية مكثفة، والقائمة على دمج قيادات سنية داخل حكومة عراقية مركزية. وقد يثير هذا التغيير غضب الولايات المتحدة، نظرًا لأنه من الصعب تخيل سبيل آخر يمكن من خلاله تهدئة السنة والحفاظ على التزامهم بالإبقاء على العراق موحدًا. ومع ذلك، تبقى هذه الاستراتيجية منطقية بالنظر إلى أن العراق أصبح مقسمًا فعليًا جراء وجود «داعش» في المناطق ذات الأغلبية السنية من البلاد. فيما مضى، ربما كان رئيس الوزراء ليقلق بشأن كيف ستشعر واشنطن حيال عراق مقسم يهيمن عليه الشيعة، خصوصا أنه يقع مجاورًا لإيران، لكن العبادي لا بد أنه يبني حساباته على أن الاتفاق الذي عقدته واشنطن مع طهران، سيدفع الأولى للتعايش مع هذه النتيجة باعتبارها الأقل سوءًا، وذلك لأن شعورها بالتهديد من جانب إيران انخفض بعد الاتفاق النووي.
إن الولايات المتحدة ترغب في هزيمة «داعش»، ومن المفترض أن الرغبة ذاتها تساور إيران، إلا أن التحول الأكبر يكمن في أن الولايات المتحدة ربما لم تعد على القدر نفسه من الالتزام مثلما كان الحال سابقا تجاه عراق موحد متعدد الطوائف باعتباره حائط صد ضد إيران. هذا التحول نتيجة الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
8:2 دقيقه
TT
الاتفاق الإيراني يصوغ شكل الحرب بالعراق
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة