ببلوغ هنري كيسنجر مائة عام بعد عمر طويل، انقسم تقييم الكثيرين حول شخصيته وإنجازاته. وفي الحقيقة قبل ذلك بسنوات طويلة أثارت شخصية وسياسة كيسنجر جدلاً بين مَن يكيل له المديح ومَن ينتقده على مستوى الساسة والإعلاميين وعدد من الأكاديميين. ومن الأكاديميين الذي انتقده انتقاداً لاذعاً زميل له أستاذ في العلاقات الدولية بجامعة هارفارد الأميركية وهو مثله أيضاً من نفس الديانة اليهودية اسمه ستانلي هوفمان. ينحدر كيسنجر من أسرة يهودية ألمانية من عائلات بافاريا البرجوازية.
وُلد بتاريخ 27 مايو (أيار) 1923. غادر ألمانيا مع والديه إلى الولايات المتحدة في نهاية عقد الثلاثينات من القرن الماضي وتحديداً في عام 1938 هرباً من نازية أدولف هتلر. درس العلوم السياسية وتخرج في واحدة من أعرق الجامعات بالولايات المتحدة وهي جامعة هارفارد التي درس فيها أيضاً وتولى بعد ذلك مهام الدبلوماسية الأميركية في الفترة من 1968 إلى 1977 كمستشار في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، ثم كوزير للخارجية في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، واستمر في العمل مع خلفه الرئيس جيرالد فورد، بعد فضيحة «ووترجيت» التي أطاحت بالرئيس نيكسون.
كما أشرنا أعلاه، إن أكثر من انتقده أكاديمياً بنوع من القسوة كان زميله ومن نفس ديانته اليهودية ستانلي هوفمان، البروفسور في جامعة هارفارد. الذي توفي عن عمر 87 عاماً سنة 2015 في الولايات المتحدة.
من مواليد فيينا. هاجر إلى فرنسا هرباً من النظام النازي، درس فيها الثانوية ثم الجامعية في باريس في معهد العلوم السياسية. حضر رسالة الدكتوراه عن المنظمات الدولية في جامعة السوربون، ثم على أثر حصوله على منحة من فرنسا، ذهب إلى الولايات المتحدة للدراسة أيضاً في جامعة هارفارد على أساس أن يعود بعدها إلى فرنسا. في أثناء وجوده في جامعة هارفارد زامل شخصيات برزت بعد ذلك أميركياً وعالمياً مثل برجينسكي، وصامويل هنتنغتون، وهنري كيسنجر. اُختير في عام 1955 ليدرّس مادة العلاقات الدولية في «هارفارد»، ثم في مطلع الستينات خصص محاضراته في الجامعة حول موضوع النزاعات الدولية وعنون محاضراته بكلمة مفيدة مختصرة سمّاها «الحرب» تناول فيها تصنيف أشكال النزاعات الدولية المختلفة ببعديها التاريخي الفلسفي، والسياسي القانوني.
في أثناء التدريس بجامعة هارفارد تميزت العلاقات بين هنري كيسنجر وستانلي هوفمان بالود والاحترام المتبادل. لكن تغيَّرت مظاهرها بعد تولي كيسنجر منصب وزارة الخارجية في عهد نيكسون بسبب انتقادات هوفمان للسياسة الخارجية الأميركية في فيتنام والشرق الأوسط في حرب أكتوبر وما صاحبها من الحظر النفطي الذي تضرر منه حلفاء أميركا الأوروبيون أكثر مما أصاب الولايات المتحدة. تلك الانتقادات عدّها كيسنجر انتقادات موجهة إليه شخصياً لأنه هو الذي كان يقوم بمهام السياسة الخارجية بشكل رئيسي، ولم تكن سياسة الرئيس الأميركي نيكسون وحده. وجاء رد فعل كيسنجر على انتقادات زميله السابق، حسب بعض وسائل الإعلام، في قوله إنه من السهل على زميله ممارسة السياسة في الغرف المغلقة وتوجيه النقد من مقعده الجالس عليه بأريحية في كرسيّ الأستاذية في الجامعة لأولئك المسؤولين الذين لديهم الشجاعة في تحمل مسؤولية ممارسة السلطة على أرض الواقع.
في كتابه عن السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب الباردة، تطرق ستانلي هوفمان إلى تحليل شخصية هنري كيسنجر وسياسته الخارجية التي سمّاها «الحقبة الكيسنجرية»، وأشار إلى ولع كيسنجر بالأضواء والنجومية وأن تكون أخباره محل تداول إعلامي واسع، ولكن شعبية النجوم تتوارى مع أي فشل. وفي المعتاد هناك وكلاء للنجوم ووسطاء في علاقتهم بالإعلام ولكنّ هذا الشيء يفتقر إليه كيسنجر لأنه هو الذي يتولى مباشرةً علاقته بالإعلام دون وسيط.
والشيء ذاته يتبعه كيسنجر في السياسة الخارجية؛ حيث يفضل ترتيب العلاقات الشخصية والمباشرة مع قادة دول العالم دون إعداد مسبق من إدارته في الخارجية. وأحد أمثلة هذا النهج ذلك الذي اتّبعه في علاقته مع الرئيس المصري أنور السادات. فقد كتب في المجلد الثاني من مذكراته للفترة (1968 - 1973): «إنه لم يكن من السهل أن يحل السادات بعد وفاة الرئيس ناصر، حيث سُئلت من أحد الصحفيين عن رأيي في السادات، وأجبته بأنه لن يدوم في السلطة إلا بضعة أسابيع، وكانت إجابتي هذه أكثر الأخطاء الجسيمة في تقييمي لشخصيته»! ولم يكن مستغرباً أن يضع كيسنجر في كتابه الأخير «القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية»، الرئيس السادات ضمن القادة الستة الذين استعرضهم في كتابه الأخير: كونراد أديناور في ألمانيا، وشارل ديغول في فرنسا، وريتشارد نيكسون في الولايات المتحدة، ومارغريت ثاتشر في بريطانيا، ولي كوان يو في سنغافورة، الذين يرى أنهم حققوا نجاحاً باهراً في تحقيق أشياء عظيمة داخل بلادهم وخارجها.
رأينا في أوجه تعليقات زميله في «هارفارد» رأيه حول شخصية كيسنجر نفسه، والذي لم يتمادَ إلى درجة وصفه بالكاذب واتهام البعض له بارتكاب جرائم حرب ودعمه سياسة الأبارتايد في جنوب أفريقيا، وفق ما وصفته صحيفة «الغارديان» بمناسبة بلوغه مائة عام في مايو الماضي.
وللحديث بقية.