كل المؤشرات في الشهر الـ16 على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، أن المواجهات بين البلدين مرشحة لأن تتحول إلى حرب استنزاف تمتد لسنوات، مع «التعهدات» بتدفق الذخيرة والتسليح النوعي على كييف!
جرت تحولات مثيرة في الأيام الأخيرة إثر سقوط باخموت. هجمات بطائرات من دون طيار في العمق الروسي فوق موسكو، واختراقات حدودية تكررت في منطقة بيلغورود الحدودية شمال شرقي خاركيف. ورغم أنه لم تسجل خسائر تذكر نتيجة الهجمات بالطائرات المسيّرة ونجاح الجيش الروسي في كسر الاقتحامات البرية، فالرسائل واضحة لجهة معنى امتداد الحرب داخل روسيا، وعدم اقتصارها على مناطق الشرق والجنوب الأوكرانية التي تمّ ضمّها ولم تنجح موسكو بضمان أمنها بعد.
كذلك فإن القيادة الأوكرانية من خلال استهداف العاصمة الروسية والكرملين أرادت أن توصل رسالة بأن كييف مقابل موسكو، وأن الضربات الجوية الروسية المكثفة ضد عاصمة أوكرانيا، ومراكز القيادة والسيطرة ومقر الاستخبارات العسكرية ومخازن السلاح الغربي والبنية التحتية لن تمر من دون رد يشير إلى إمكانية خلق «توازن رعب»، فضلاً عن المهانة التي ألحقت بالقيادة الروسية.
استهداف موسكو سيترك تداعيات لجهة اتساع الصراع، لتزامنه مع محدودية التقدم الذي حققه الروس على الأرض، وتنفيذ ما أعلنته موسكو من أن الهدف استئصال نزعة نازية معادية (...) وتجريد أوكرانيا من السلاح. توازياً، أظهر الوضع الميداني شكوكاً بقدرة أوكرانيا على استعادة أراضيها المحتلة التي تزيد قليلاً على نسبة 20 في المائة من إجمالي مساحة أوكرانيا! لكن لاستهداف العمق الروسي أكثر من معنى؛ أبرزها حث القوى الأطلسية على تسريع توريد أسلحة هجومية لكييف، كما طالب زيلينسكي في قمة مولودوفا في الأول من يونيو (حزيران)، بإنشاء تحالف دولي يمد بلاده بصواريخ «باتريوت» ومقاتلات هجومية، وداعياً إلى ضمِّ بلاده إلى الحلف الأطلسي!
مخيف هو المشهد الأوكراني. تحولت مناطق المواجهات إلى ركام ومتعذر إحصاء الخسائر البشرية، أما عمليات الاقتلاع والتغيير الديموغرافي فهي تثير الفزع، لأنها الأولى من هذا النوع في أوروبا بعد الحرب العالمية، وتبعات كبيرة ستترتب على تدفق ملايين اللاجئين... إلى ما يقابلها من خسائر بشرية تكبدها الطرف المقابل، لم تتوقع حجمها القيادة الروسية، معطوفة على تراجع اقتصادي مقلق رغم المكابرة والإنكار.
اليوم فرغت مخازن الأسلحة والذخيرة في أوروبا وبنسبة أقل في أميركا ما يتطلب إنفاقاً عسكرياً ليس بالحسبان، إلى تكلفة إطلاق تصنيع أسلحة متقدمة توازي ما لدى الروس وبالأخص الصواريخ «الفرط صوتية» عالية الدقة التي أصابت بسهولة الباتريوت، وما يعنيه ذلك من انكشاف الدفاع الجوي الغربي... كل ذلك سيتم على حساب رفاه المواطن في الغرب ويصيب بسلبياته المتقاعدين خصوصاً، وستتراجع الخدمات الصحية والتعليم، كما أن موجة التضخم التي تلف العالم تبدو كأنها أول الغيث! هذا مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ما أصاب السلة الغذائية عالمياً، مع تراجع إمدادات القمح وكثير من المواد الأولية، وبدء تقدم العوز الذي يطال مئات الملايين من مواطني وسكان دول الجنوب.
ليس في الأفق أي مبادرة جدية لوقف هذه الحرب التي لم يتم تفاديها، وأكثر فأكثر تبدو الفجوة عميقة بين مواقف موسكو وكييف. الرئيس زيلينسكي لم يظهر أي رغبة بوقف للنار قبل تحقيق الشرط الذي رفعه «خروج القوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية بما في ذلك القرم». وأصوات محيطين به تراهن أن التسليح الحديث سيمكن كييف من نقل الحرب إلى داخل روسيا، دون أي اتعاظٍ لمعنى فشل القيام بهجوم الربيع، وبلغ اللامعقول حد إعلان مستشار الرئيس عن شروطٍ بينها منطقة عازلة داخل الأراضي الروسية بعمق 150 كلم، ولجنة دولية تشرف على الترسانة النووية الروسية، و... استسلام روسي كامل!
ويبرز اللامعقول في تصريحات يوري ميدفيديف عن زوال أوكرانيا، وتقسيمها بين روسيا ودول غربية، وضرورة القضاء على التهديد الذي يمثله نظام كييف! لكن يبدو أن قرار موسكو يتوسل ما كانت تعتمده قيصرة الروسيا كاترين: «لا أملك أي طريقة للدفاع عن حدودي سوى توسيعها»! لذلك تتقدم طروحات التوسع نحو خاركيف وكل شرق نهر الدنيبر لأن السردية الروسية تعتبر الشرق والجنوب أراضي روسية ... ورهان موسكو استنساخ حرب استنزاف باخموت وماريوبول التي أفقدت أوكرانيا نخبتها العسكرية!
وثّقت حرب أوكرانيا عرى الأطلسي لكنها شطرت العالم نصفين، ومع مرور الوقت تراجعت عزلة موسكو، وكان لافتاً اعتراف الرئيس ماكرون في مؤتمر ميونيخ للأمن: «لقد صدمت بفقداننا ثقة الجنوب العالمي»! فيما بدا مثيراً إعلان لولا رئيس البرازيل أن «زيلينسكي مسؤول عن الحرب بقدر بوتين»!
أمام الأوكران هذا الصيف لإحداث تحول ميداني وإرباك روسيا داخل حدودها بعدما حصلوا على أفضل ما في الترسانة الغربية والأمر بالغ الصعوبة. بعد ذلك حرب الاستنزاف ستكون كارثية، فباريس وبرلين تتحدثان عن ضمانات لأوكرانيا لوقف النار، وماكرون يكشف أن «الحرب أثبتت هشاشة أوروبا»، وقانون سقف الدين في أميركا سيقفل حنفية المساعدات العسكرية وفق السيناتور غراهام... ومن دون وساطة جدية لن تتمكن موسكو ولا كييف من النزول إلى أرض الواقع وشلال الدم والخراب قد يتجاوز حدود أوكرانيا!