علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

فصام بين المعتقد والممارسة

استمع إلى المقالة

قلت في المقال السابق: إن سلامة موسى استعمل لفظ سلفية مقروناً بجماعة دينية مسلمة مرة واحدة، وذلك حين قال: لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضاً، كما نرى في حركة الإخوان المسلمين.

والإدانة لها هنا، أنه على صعيد الحركات الاجتماعية والسياسية التي يجب عنده أن تكون عصرية حديثة، حركة الإخوان المسلمين تسعى إلى إعادة بناء الماضي.

توسّع سلامة موسى وإسرافه وتطرفه في استعمال لفظ سلفية؛ ما قاد عباس محمود العقاد إلى أن يكتب فيه هجائية هي من أعنف وأمرّ الهجائيات التي كتبت في مثقف بعينه في العالم العربي في القرن الماضي.

وقد قال عنها تلميذه وصديقه الأزهري، محمود الشرقاوي في كتابه «سلامة موسى المفكر والإنسان» إنها «من أشد الحملات التي تركت في نفسه أثراً بالغاً لفترة طويلة».

قصة هذه الهجائية بدأت بأن سلامة موسى في كتابه «البلاغة العصرية واللغة العربية» الصادر عام 1945 قال: «وقد التفتُ إلى عبارة قالها الأستاذ عباس محمود العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون – على غير ما يحب - إلى اللغة العامية. وقد حسب عليهم هذه الدعوة في قائمة رذائلهم؛ لأنه يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد، أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية، وهي: أن الاشتراكيين شعبيون، يمتازون بالروح الشعبي، ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضاً مستقبليون، وليسوا سلفيين؛ ولذلك يحملهم احترامهم للشعب على إيثار لغته الحاضرة على لغة السلف، وفي حين هو سلفي الذهن في لغته، وأسلوبه، وتفكيره، وسلوكه، وليس الأستاذ العقاد وحيداً في هذه السلفية؛ لأنني أعتقد أن 90، بل ربما 99 في المائة من كتابنا سلفيون، وهذه السلفية هي نتيجة لحرمان الأمة من الرقي الصناعي، وقصرها على الزراعة».

كتب العقاد افتتاحية مجلة «الرسالة» تحت عنوان «السلفية والمستقبلية» العدد 627، بتاريخ 6 يوليو (تموز) 1945، وقال في مفتتحها «عني الأديب الفاضل الأستاذ الحوفي بالرد على اللغط الذي يلوكه باسم التجديد ذلك الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها ولا يتكلف لها كلفة في العمل أو المال. فهو يشتري الأرض، ويتجِّر بتربية الخنازير، ويسخِّر العمال ويتكلم عن الاشتراكية التي تحرّم الملك وتحارب سلطان رأس المال. وهو يعيش من التقتير عيشة القرون الوسطى في الأحياء العتيقة، ويتكلم عن التجديد والمعيشة العصرية. وهو ينعي الحضارة الآسيوية، وإنه لفي طواياه يذكرنا بخلائق البدو المغول في البراري السيبرية».

وقال ردّاً على سلامة موسى في تأليفه هو كتاباً عن خالد بن الوليد: «وهذا الكلام عن السلفية والمستقبلية ببغاوي العبارة لا يعقل قائله ما يقول. لأن الكتابة في الموضوعات التاريخية ليست هي مقياس السلفية أو المستقبلية وإلا كان المؤرخون كلهم سلفيين؛ لأنهم ما كتبوا ولن يكتبوا في غير العصور السالفة وفي غير الماضي البعيد أو القريب، وإنما المقياس الصحيح هو طريقة الكتابة في الموضوعات التاريخية والأبطال التاريخيين، وبهذا المقياس يحسب الإنسان سلفياً رجعياً ولو كتب عن المستقبل الذي يأتي بعد مئات السنين. إذن هو قد يكتب عنه بروح الجهل القديم والعصبية الرجعية، وهي العصبية التي عششت في دماغ ذلك الكاتب الببغاوي فلا ينساها في موضوع قديم ولا حديث».

لم يستغل العقاد خطأ سلامة موسى، بأنه ألّف كتاباً عن حسان بن ثابت فيقرّعه بجملة قارصة على هذا الخطأ؛ لأن أحمد محمد الحوفي - وكان في ذلك العام يعمل مدرساً بالسعيدية الثانوية - في العدد السابق من مجلة «الرسالة» التي كتب العقاد افتتاحيتها، أشار إليه في عرضه ونقده كتاب سلامة موسى «البلاغة العصرية واللغة العربية».

فقد قال: «بقيت إشارة عجلى إلى خلط آخر في كتابه كالخلط الذي بيّناه في لومه أبا تمام في المقال السابق، تلك أنه نسب إلى العقاد التأليف عن حسان، فليخبرنا متى كان ذلك؟ اللهم إلا إذا أراد بحسان كل مشايع للرسول منافح عن الإسلام»! وربما أن بعض ما قاله العقاد في تلك الهجائية عن تناقضات سلامة موسى، هو الذي دفع بالأخير في سيرته الذاتية «تربية سلامة موسى» أن يعترف هو بنفسه بتناقض لم يعلم به العقاد عنه، حاول فيه تقديم مبرر له.

هذا التناقض هو أنه من أقدم الداعين إلى تحديد النسل في مصر، وكان قد ألّف مع الطبيب كامل لبيب كتاباً عام 1930 اسمه «ضبط التناسل ومنع الحمل»، ومع ذلك أنجب هو وزوجته ايميلي موسى، ثمانية أولاد، هم - حسب توالي أعمارهم: ليلى، سعاد، هدى، سميحة، رؤوف، نبيل، خوفو، سميرة.

تلميذه وصديقه الأزهري، محمد الشرقاوي في كتابه عنه الذي صدر عام 1965، ذكر هذا التناقض، وذكر تناقضاً من التناقضات التي سردها العقاد، لكن بغير قوة وعنف، بل بأسلوب لطيف تسويغي.

يقول عن تناقضاته: «كان سلامة موسى يعيش في بيته عيشة شرقي محافظ. لم يسكن يوماً في غير الأحياء الشعبية. وكان منزله وأثاثه وطعامه شرقياً، بل محافظاً، يلبس داخل البيت (جلاّبية) بيضاء كأنما هو رجل ريفي. دعا لتحديد النسل فترة من حياته ومع ذلك فقد أنجب ثمانية، ودعا طول عمره لأن يعيش الشرقيون، بل الفلاحون، في بيوت عصرية نظيفة، وعاش حياته كلها في مساكن من بيوت القرن التاسع عشر؛ لأنه عاش فقيراً. ولم تتجلَ عصريته في حياته الخاصة إلا في تربية أولاده، صبياناً وبناتٍ. دعا لأن تكون لكل فتاة حرفة، ومع ذلك لم تعمل واحدة من بناته عملاً، ولم تتولَ وظيفة، زوّجهن مبكرات، وكل واحدة منهن في بيتها، خير زوجة وأم».

وتعذّر على تلميذه وصديقه الأزهري، أن يبرر له بأن دعوته الأخيرة كانت في فترة من حياته؛ لأنه وبناته في الحال التي يبّينها، كان أستاذه يلهج بهذه الدعوة في كتابه «المرأة ليست لعبة الرجل»، الصادر عام 1956. ومما قاله فيه: «لو أنني كنت ديكتاتوراً لشرطت على كل فتاة ترشّح للزواج أن تكون قد عملت وكسبت من عمل حر أو من وظيفة حكومية خمس سنوات على الأقل. بل أزيد على هذا أن هذه السنوات الخمس، يجب أن تمضي سواء في مكتب أو متجر أو مصنع مع الرجال». وللحديث بقية.