د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

التبغ وفشل حملات التشهير به

استمع إلى المقالة

يحيي العالمُ الأربعاءَ المقبل، اليومَ العالمي للإقلاع عن التدخين الذي ربما للوهلة الأولى لا يثير فينا فضولَ الإنصات والمتابعة والاهتمام. وهو موقف مفهوم جداً، بمعنى أنَّه يمكن تفهمه لأنَّ الجهود الكبرى التي بُذلت وما زالت، تبذل لم تعطِ أكلَها، وظلَّ التبغ يُحكِم قبضتَه على ملايين من الأشخاص حول العالم. بل إنَّ قرار الإقلاع عن التدخين في حد ذاته يمثل أكبر معركة يمكن أن يخوضَها أي شخص مدخن.

ورغم أنَّ الكلام عن التبغ ومضاره لا يجد الآذان الصاغية، فإن الشيءَ الذي يجب ألا ينقطع والدعوة التي لا بد من أن نستمر في رفعها ضد التبغ لا مفر من ضرورة استمراريتها. وذلك بكل بساطة لأنَّ القضيةَ ذاتُ وجاهةٍ وجادةٌ وذاتُ علاقةٍ بأثمنِ شيء في حياة الإنسان وهو الصحة.

بل إنَّه كلما تمعنّا أكثر في علاقة أمراض عويصة كثيرة بالتدخين، لا نستطيع إلا أن نواصل درب التشهير والتنديد.

ولقد حدَّدت منظمةُ الصحة الدولية أكثرَ من 100 سبب للإقلاع عن التدخين. وأظهرت الدراسات أنَّ التبغ مسؤولٌ عن ربع الوفيات الناجمة عن مرض القلب التاجي. وأعلنت منظمة الصحة العالمية بكل وضوح أنَّ ثمانيةَ ملايين شخص يلقون مصارعَهم سنوياً بسبب التبغ. يمكن القول إنَّنا في حرب مقنّعة باردة سرية مع التبغ، ولكن لا ناقوسَ لهذه الحرب. والعهد ليس ببعيد، أظهرت جائحة «كوفيد - 19» كيف أنَّ الذين يدخنون كانوا أكثر عرضة لِعيشِ تجربةٍ قاسية مع الجائحة بما في ذلك الوفاة. وفي الحقيقة أنَّ العلماء نطقوا وشهروا بالتبغ طولاً وعرضاً من دون هوادة، إلى درجة أن ركَّزوا على حقيقة الارتباط بين التدخين و20 نوعاً من السرطان. لكنَّ هذا لم يُسهم في خلق صدمة كبيرة ويحقق نتائجَ عريضة في خضمِ الحملات المبذولة من أجل الإقلاع عن التدخين.

الفكرة الرئيسية التي من المهم الانتباه إليها حسب اعتقادنا هي أنَّ الفشلَ في التوعية وإسداء النصائح لا يمكن أن يخلق شعوراً بعدم الجدوى. فالتداعيات خطيرة جداً ولا يتسبب التدخين في وفاة 8 ملايين شخص سنوياً فقط، بل إنَّ تكلفة ذلك أكثر بكثير، إذا ما أضفنا عدد الأرامل وعدد الأطفال الأيتام بسبب التبغ، عدا التكلفة المادية.

ومن هذا المنطلق، فإنَّ الحكمة تقتضي مواصلة التوعية من دون توقف، خصوصاً أنَّ المقبلين الجدد على التدخين في ازدياد وفي توسع، بمعنى أن تعاطي التدخين عرف تغييرات من المهم أخذها بعين الاعتبار. ففي الماضي القريب كان التدخين حَكراً على الرجال، واليوم أصبح يشمل الجنسين. وفي الماضي كانت بداية تعاطي التدخين تبدأ في سن الشباب تقريباً، واليوم أصبح الأطفالُ أيضاً يدخنون. وبالنظر في هذه التحولات التي زادت في قاعدة المقبلين على التدخين، فإن جهودَ التوعيةِ لا بد من أن تتضاعف وتتضاعف. فالأمر هو جوهر مستقبل الحياة في الأرض ونوعية الحياة أيضاً. ويتعلَّق الأمر بقوة العمل في أي بلد، ونحن نعلم كم ينهك التدخينُ جهازَ التنفس والرئتين في جسد الإنسان.

طبعاً هناك مشكل، وهو أنَّ الجميعَ يُشَهِّرُون بالتدخين ويهجونه شرَّ هجاء، سواء أكانوا مدخنين أم غير مدخنين، وحتى صناع التدخين أنفسهم يكتبون على غلاف علبة السجائر العبارة الشهيرة: التدخين مضر بالصحة، ولا يكتفون بهذا، بل يضعون صوراً مقززة لتأثير التدخين على الجسم. أي أنهم يقومون بتوفيره وتوزيعه مع الإعلام بمضاره. وربما هذه الجملة التي قضت على جهود التوعية بالفشل؛ لأن أكثر من يمارس التوعية والتنبيه في كل علبة سجائر هم باعة التبغ.

لذلك؛ يمكن القول إنَّ المنتوجات القائمة على الإدمان وصعوبة الانقطاع، تضع حملات التوعية في مواجهة صعوبات كبيرة. لذلك؛ ربما من المهم أن يتغير خطاب الدعوة إلى الإقلاع عن التدخين، لأن هذا المجال يوظف ملايين البشر الذين يعتاشون منه. لذا وجب البحث عن العلاج الملائم وغير المتسرع في هذا الأمر؛ لأن الحرب على التدخين تولّد بطالة ينبغي معالجتها أيضاً.

من ناحية أخرى، نلحظ أنَّ الإقلاع عن التدخين يحتاج إلى مناخ كامل يسهم في نجاح أي محاولة.

كما أننا نعتقد أن الخطاب متسامح أكثر مما يجب، ولا يذهب إلى المناطق التي يمكن أن تخلق نقاشاً عمومياً عميقاً: فمثلاً نصِف أحياناً من يدخن وهو مريض بأنَّه بصدد الانتحار، ولكن لا نصِف من يدخن بأنَّه بصدد الاعتداء على البيئة وعلى الأشخاص الذين لا يدخنون. فالمدخن السلبي يصله شرُّ التبع وهو لا يتعاطاه، ولكن لا تهمة للمدخنين ولا نتناول الموضوع من زاوية الانتصار لحق غير المدخن في أن يحمي نفسه من المدخنين.