يتزايد الضغط على سويسرا من الداخل والخارج لسحب الودائع المالية الروسية؛ بهدف إعادة إعمار أوكرانيا، رغم أن القاعدة المعروفة في هذه الأحوال أن إعادة إعمار أي بلد يخوض حرباً هجومية أو دفاعية أو وقائية، تبدأ بعد توقف الحرب، وليس خلالها، خاصة إذا كان الدمار المقصود بإعادة الإعمار يقع في قلب الحرب؛ من جسور، وطرق، وسكك حديد، وكهرباء، ومياه، وجامعات، ومدارس، ومستشفيات، وأسواق، وأنفاق المترو، وعمارات سكنية.
حتى هذه اللحظة ذكر «مركز المعلومات السويسري» أن بيرن، العاصمة الإدارية، لم تقْدم على سحب الودائع المالية الروسية، لكن وزير الخارجية السويسري لمّح، على هامش «المنتدى الاقتصادي العالمي»، الذي عُقد في دافوس، في يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى تشجيع سحب الأموال المجمَّدة، التي تعود إلى الأقلية من الأثرياء الروس المتنفِّذين سياسياً، على فرض إمكانية أنها مصدر ممكن لإعادة إعمار أوكرانيا. ومع ذلك فلا بد من توفير قاعدة قانونية وتعاون دولي، وليس تفسيرات فضفاضة وفوضوية قد تنال من المركز العالمي لسويسرا. والغريب أن وزير الخارجية السويسري نفسه قد ركز على ضرورة التحذير، قبل ستة أشهر من الإقدام على انتزاع الملكيات الخاصة، لكي لا تضطرب سمعة سويسرا ومركزها المالي التاريخي، وتكون هذه الحالة «سابقة خطيرة» قد تتكرر لأسباب أخرى.
الموقف السويسري يتحدث بلهجتين؛ الأولى أن سويسرا لن تُقدِم على ذلك، وهي تتخذ موقفاً دفاعياً، مثلما ترددت، في بداية الأمر، قبل أن تقترب من موقف «الاتحاد الأوروبي»، فهي لا تريد إغضاب الولايات المتحدة و«الاتحاد الأوروبي»، وفي الجانب الآخر القانوني تتمسك، بشكل حاد، في عدم المساس بالنص القانوني الذي ألزمت نفسها به للحفاظ على ثروات المودِعين؛ دولاً أو أشخاصاً، داخل سويسرا، بمأمن من أي تسلط قدر الإمكان.
صحيح أن الوضع السويسري حرِج، والدستور يضمن الملكية الخاصة، ولا توجد قاعدة قانونية تسمح بنزع ملكية الثروات الشخصية الروسية، فإن وزارة العدل والشرطة الفيدرالية تقفان إلى جانب هذا الاختيار. ودولياً أعلنت كندا وكرواتيا أيضاً تأييدهما استخدام الثروات الروسية الخاصة، لصالح أوكرانيا التي - للحق - ما زالت تناقش شرعية هذا الأمر، وهي تفضِّل أن تقوم الولايات المتحدة ودول شرق أوروبا، بممارسة ضغوط لتحقيق هذه الخطوة.
لا شك أن الثروات الشخصية الروسية، البالغة ما بين 150 و200 مليار فرنك سويسري، المودَعة في البنوك السويسرية بأسماء رجال ونساء، ما زالت مجمَّدة، بالإضافة إلى 17 عقاراً مملوكة لأفراد من روسيا، ممن طالتهم العقوبات الأميركية لأسباب مختلفة، وتشمل أفراداً مرتبطين بـ«الكرملين»، ومسؤولين في مؤسسات الدولة، وأفراداً أثرياء، وبنوكاً، ورجال أعمال؛ ليس في سويسرا فقط، وإنما في بريطانيا أيضاً، بالإضافة إلى أصحاب اليخوت الفاخرة المرتبطين بالروس الخاضعين للعقوبات. وشملت العقوبات أيضاً مسؤولي الحكومة الروسية، وأفراد عائلاتهم، وتم تجميد الأصول المالية، التابعة للرئيس بوتين، ووزير الخارجية لافروف، في كل من الولايات المتحدة، و«الاتحاد الأوروبي»، والمملكة المتحدة، وكندا.
تمكنت سويسرا من إدارة «الحياد»، خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهو «الحياد الأبدي»، الذي حصلت عليه سويسرا في «مؤتمر فيينا» عام 1815، وقد قيل إن هذا الحياد مُنح لها باعتبارها منطقة عازلة غير مؤذية بين القوى الكبرى في أوروبا، وحافظ هذا الحيادُ على سلامة سويسرا، بينما كان جيرانها يذبح بعضهم بعضاً.
والمعروف أن بلد جبال الألب ليس عضواً في «الاتحاد الأوروبي»، رغم أن السويسريين يدركون أنهم جزء من الأسرة الأوروبية الليبرالية، وهو ما دفع سويسرا إلى تبنّي العقوبات الأوروبية، وليس الحرب، على روسيا. وحين يتعلق الأمر بالعقوبات، فإن «الحياد كان يتأرجح لبعض الوقت»، كما قالت ستيفاني والتر، أستاذة السياسة في جامعة زيوريخ، وأشارت إلى أن بيرن غيَّرت موقفها بالفعل كثيراً، في العقدين الأخيرين. ونحن لا ننسى أن سويسرا انضمّت إلى عقوبات الأمم المتحدة والولايات المتحدة ضد العراق، في التسعينات من القرن الماضي.
هناك الآن التماسان في «البرلمان الفيدرالي السويسري» لإقرار قاعدة قانونية مؤقتة ومقيدة بالأزمة الأوكرانية، وقاعدة ثانية تشترط وجود نزاع أو حرب يعتبرها «مجلس الأمن» أو ثلثا أعضاء «الجمعية العامة للأمم المتحدة»، انتهاكاً للقانون الدولي.
لكن الديمقراطية السويسرية يمكن أن تقضي سنوات في مناقشة القاعدتين، بحيث تتوقف الحرب، ولا ينتهي الحوار بسبب النواب من الرجال، والنساء، والأحزاب، والتيارات السياسية المتعاكسة!
ومن جهة أخرى، تراعي سويسرا أنها شهدت أكبر موجة في عام 2022 من النازحين الأوكرانيين (75) ألف لاجئ، أكثريتهم من النساء والأطفال، ووفّرت لهم الحماية التي تسمح لهم بالعمل والسكن والدراسة.
حالياً ليس هناك أي تغيير في الحياد السويسري، ولا يوجد أي دعم عسكري من بيرن إلى كييف، وتمنع «اتفاقية لاهاي» لعام 1907 إرسال أسلحة إلى دول في حالة حرب، سواء كانت مستعملة أم جديدة، لذلك رفضت سويسرا طلباً ألمانياً للسماح بتصدير ذخيرة سويسرية الصنع للدبابات التي ترسلها برلين إلى كييف.
ويبحث السويسريون عن هوية مختلفة واستراتيجية أمنية جديدة لبلدهم، بالإضافة إلى معارضة الانضمام إلى «حلف الناتو». ويقترحون الانضمام إلى اتحاد دفاعي أوروبي، بما يحقق تعاوناً عسكرياً يشمل الدول الملتزمة بسياسة أمنية ودفاعية مشتركة، دون الدخول في أي حرب، وسيتم شراء الطائرات المقاتلة والدبابات والأسلحة الأخرى، لتنظيم جيش أوروبي مشترك.
وإذا استمر الجدل السويسري فإن الحال ستذهب إلى «عدم الحياد بعد الآن»، وعلى سويسرا أن تقف في «عالم جديد مستقطب، وأن تلتزم بأنها جزء من العالم الغربي في قيمه واقتصاده وتقاليده وكل شيء».
ونختم المقال بما قاله الرئيس السويسري الأسبق باسكال كوشيان، أمام البرلمان السويسري، بشأن مسؤولية «مجلس الأمن الدولي» عن الأمن والسلام الدوليين، وإشارته المهمة إلى احتلال العراق في عام 2003، قائلاً: «إن هذه الحرب هي بمثابة الفشل للولايات المتحدة، التي قررت خوضها دون تفويض من المجتمع الدولي، وإنها أيضاً فشل لمجلس الأمن، الذي لم ينجح في الحفاظ على وحدة أعضائه في التعامل مع الأزمة العراقية»، فصارت هذه الحرب «سابقة خطيرة»، بالنسبة لمفهوم السلام الدولي المشترك.