روجر كوهين
كاتب, نيويورك تايمز
TT

لماذا يزايد «داعش» على الحرية؟

لماذا يهجر الشباب الأوروبيون صغار السن بلادهم بالآلاف ويرحلون عن بلدان مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا ليتطوعوا لخدمة التنظيم الذي أطلق على نفسه اسما هو «الدولة الإسلامية»، ويهبوا أنفسهم لتحقيق هدف بعيد المنال وهو إنشاء دولة الخلافة المزعومة الذي يدعمه حملة دعاية تكنولوجية رقمية؟
الإجابة الأمينة أننا لا نعرف لماذا يقدم شاب بريطاني عشريني يحمل شهادة في هندسة الكومبيوتر، أو شاب من قرية بجنوب فرنسا، على فعل ذلك، ولماذا يصل إلى مثل هذه المرحلة من التحول النفسي.
يؤدي التعصب إلى صعوبة في اتخاذ قرارات فردية، ومن ثم إلى الاستسلام الجماعي وبإذعان كامل لقضية ما. يتم تقديم الأمر كشيء عظيم تتبعه مكافأة كبيرة، ليقول لنفسه وداعًا للقرارات الصعبة، وداعًا للوحدة.
يتمتع تنظيم داعش بمهارة استغلال الانعزالية التي يشعر بها الكثير من الشباب المسلم بدءًا من أحياء باريس وحتى الشوارع الخلفية في مدينة بيدفورد في بريطانيا، حيث يعدهم التنظيم بحياة ذات معنى، سواء في هذه الحياة، أو في الحياة الأخرى، بدلا من حياتهم الحالية عديمة المعنى.
استفادت تلك الجماعة من الدعم النشط الذي تتلقاه من بعض دعاة التطرف عبر شبكة الإنترنت، أو من خلال الدعم الضمني من مقاتليها لبعضهم بعضا، أو على الأقل من حالة الإذعان، أو من بعض الأئمة في المساجد الذين يبدون «تسامحًا هادئًا» مع التشدد، حسب تعبير رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. استمدت تلك الحركات وقودها من حالة الغضب من الحرب الأميركية في العراق وأفغانستان، ومما حدث سجن أبو غريب وغوانتانامو، ومن سطوة الشيعة وتغلغل إيران في بعض دول الشرق الأوسط، ومن الحياة على الهامش في المجتمعات الغربية. ما زالت التفسيرات عاجزة، فلا يزال الكثيرون يجدون صعوبة كبيرة وضررًا في الحياة من دون قطع أعناق من يحكمون عليهم بأنهم كفار أو مرتدون، وكذلك ممارسة الاغتصاب المقنن للقاصرات من {الكفار}، والمشاركة في تنفيذ تعاليم دين الله في الأرض من خلال خليفته المختار بما يوافق شرع الله.
فشلت كل جهود المجتمعات الغربية، خاصة منذ تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، في الحد من انتشار الخلايا السرطانية للفكر المتطرف. قد يكون الضرر أصاب بعض التنظيمات التي تفرعت عن ذلك الفكر المتشدد، غير أن جذور تلك الأفكار تعمقت واتخذت أشكالاً مثل الرفض القوي للحداثة (لكن ليس كل طرق الحداثة حيث يستخدم «داعش» شبكة الإنترنت ببراعة)،
المسافة بعيدة ما بين يوركشاير البريطانية والرقة بشرق سوريا، غير أن بعض الشباب البريطانيين المسلمين يستطيعون القيام بالرحلة. يسافر غيرهم من المنضمين من بعض دول الخليج، وروسيا، وليبيا، وأستراليا، ليثبت «داعش» تمددًا بالغ الاتساع، ومن الواضح أن التنظيم يرمي لما هو أعمق، وقد يكون هذا الشيء هو الشوق للتخلص من عبء الحرية.
قطعت الدول الغربية شوطًا كبيرًا في سبيل تحرير خيارات مواطنيها، وفي سبيل تحريرهم من قيود التقاليد، وفي سبيل السماح للناس بالزواج ممن يرغبون والطلاق كما يرغبون، والموت عندما يريدون، وبصفة عامة يفعلون ما يريدون. ربما لم يتبق سوى القليل من القيود، وربما لم يتبق أي قيد.
وفي هذا السياق، يعطي التشدد الفرصة للخلاص، أو على الأقل يعطي الغاية، التي تتخذ شكل حياة ذات مقاييس أخلاقية محددة بصرامة، العادات اليومية فيها محددة بدقة، حياة فيها إشباع الاحتياجات اليومية أمر مؤكد، ورفض الحرية فيها أمر جلي. وبانتزاع الحرية، يرفع «داعش» عبئا نفسيا عن كاهل أتباعها الصغار بعدما عاشوا على هامش المجتمعات الغربية. وفي مقال للكاتب الصحافي مارك ليلا نشر هذا العام في «نيويورك تايمز ريفيو أوف بوكس» عن كتاب الروائي الفرنسي ميشال هولبيك بعنوان «استسلام» (الشخصية المحورية في الرواية تدور عن أستاذ في الأدب ساخط اختار في النهاية أن يعتنق الإسلام)، قدم الكاتب تحليلا للكتاب، حيث ركز على النقطة المهمة التالية:
{ركز هولبيك على الصفات التي دفعته لاعتناق الإسلام والتي لا تختلف عن الحقوق الدينية المعروفة منذ الثورة الفرنسية والتي سمتها حقوق ما قبل الدولة المسيحية الحديثة، والتي تتمثل في أُسر قوية، تربية أخلاقية، بنية اجتماعية، الإحساس بالمكان، موت ذو معنى، والأهم إرادة المحافظة على التراث. ويبدي مؤلف الكتاب فهمًا حقيقيًا لكل تلك القيم، بدءًا من الأهلانية، أي نهج المحافظة على مصالح سكان البلاد الأصليين، إلى التشدد، الذي يبغض الحاضر ويحلم بالعودة بالتاريخ للخلف لتعويض ما يعتقد أنه قد فقده}.
وختم الكاتب الصحافي ليلا بقوله إن هولبيك يرى فرنسا «في أزمة بدأت منذ قرنين عندما راهن الأوروبيون على التاريخ: كلما زادوا من هامش الحرية الإنسانية، زادت سعادة الإنسان. بالنسبة لهولبيك خسر العالم الرهان، وأصبحت القارة تسير على غير هدى، وهي الآن عرضة للإغواء القديم؛ الاستسلام لهؤلاء الذين يدعون الكلام نيابة عن الله}.
في أوروبا الآن، هناك إسلاميون يتحدثون نيابة عن الله، وبعضهم تحدثوا بجرأة ضد «داعش»، وترى الأغلبية في تلك الحركة خيانة لدينهم، بيد أن الإغواء التشددي بالهروب من الحرية إلى التعصب الذي يجدون فيه الإجابات التي يتوقون إليها لا يزال موجودا ولن يُكبح قريبا.
من الأمور المشوقة أن عدوا آخر للغرب، هو الرئيس فلاديمير بوتين، يهاجم الثقافة الغربية من المنطلق نفسه: يرى الغرب غير متدين، متفسخًا، نسبيًا، ويراه مصممًا على نشر تلك القيم «المدمرة» عالميًا، غالبًا تحت غطاء الديمقراطية، والتطور، والحرية، وحقوق الإنسان.
كان الانتصار العظيم عام 1989 انتصارًا للحرية، بيد أن كل نصر لا بد أن يواجه بقوة مضادة. الطريق للرقة هو الطريق للتخلص من عبء الحرية.

* خدمة «نيويورك تايمز»