في ديسمبر (كانون الأول) 2014، أصيب قردان في أقفاص خارجية في مركز أبحاث تولين القومي للرئيسيات، على مسافة نحو 40 ميلاً إلى الشمال من نيو أورليانز، بمرض «بيركهولدرية راعومية»، وهي بكتيريا مميتة ضمن فئة أعلى المخاطر لدى الحكومة الفيدرالية، المخصصة لمسببات الأمراض مثل الجدري، والجمرة الخبيثة، والإيبولا. وهي الفئة التي ترى مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها أنها «تنطوي على احتمال كبير لسقوط أعداد كبيرة من الضحايا أو إحداث تأثيرات شديدة».
على مسافة قصيرة من الأقفاص، كان هناك مختبر يعمل مع «العامل المُمْرض»، الذي لم يكن في ذلك الوقت موجوداً بصفة طبيعية في الولايات المتحدة القارية.
لم يُبلغ بعض الموظفين الذين عملوا مع القردة بالعدوى لمدة شهر تقريباً بعد الاشتباه بالإصابة بالمرض، وبعد 10 أيام من التأكد من الإصابة. في مارس (آذار) 2015، ادعى أندرو لاكنر مدير مركز تولين، أن «أنواعاً مختلفة من بكتيريا (بيركهولدرية) موجودة في الحيوانات الأليفة في لويزيانا منذ عام 2004 على الأقل، قبل فترة طويلة من بدء أي دراسة علمية للكائن الحي» في المركز.
كما نفى لاكنر التقارير الإعلامية التي تحدثت عن تسرب محتمل للمختبرات بوصفها «دورة إخبارية يمكن التنبؤ بها»، وقال: «لا يوجد تهديد معروف للصحة العامة». وبحلول ذلك الوقت، كان مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها قد حدد بالفعل أن البكتيريا الموجودة في القردة هي السلالة الدقيقة التي خضعت للدراسة في مختبر المركز.
وثّق تقرير صادر عن وزارة الزراعة في وقت لاحق تاريخاً من الممارسات المتراخية في المختبر، فضلاً على مشكلات في معالجة مياه الصرف الصحي، قد تكون الطريقة التي تسرب بها العامل المسبب للمرض.
ما كان الجانب الأكبر من ذلك ليُعرف لولا سنوات من التغطية الصحافية المكثفة من قبل أليسون يونغ، الصحافية الاستقصائية السابقة لدى صحيفة «يو إس إيه توداي»، والأستاذة في كلية ميسوري للصحافة. في كتابها الجديد «مقامرة باندورا»، توضح الدكتورة يونغ المدى المروع للمعايير والإجراءات المختبرية المتراخية، وانعدام المساءلة والشفافية، في الولايات المتحدة وحول العالم.
الدكتورة يونغ من فئة نادرة، وهي صحافية متخصصة في التحقيقات غطت قضايا مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها والسلامة البيولوجية منذ عام 2006 على الأقل، عندما عملت في مجلة «أتلانتا جورنال»، قبل فترة طويلة من جائحة «كوفيد».
يمتلئ كتابها بالتفاصيل المُبلغ عنها بكل هدوء، ولكنها مثيرة للدهشة إن لم يكن الاشمئزاز للحادثة تلو الأخرى التي كانت فيها مختبرات الأبحاث، المعنية بالعلاقات العامة أكثر من السلامة العامة، مبهمة أو حتى مضللة بشأن إخفاقات السلامة والأمراض المكتسبة في المختبرات. وتكشف في كتابها عن حوادث مختبرية لم يُبلغ عنها، أو تفاصيل لم تُعرف علناً في المختبر الحيوي للجيش في فورت ديتريك في ولاية ماريلاند، وفي مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، وفي مركز طبي للمحاربين القدامى في سان فرنسيسكو، وفي أماكن أخرى.
في ديسمبر 2019، انقطع أنبوب التنفس الخاص بمتدربة أبحاث (يوفر هواءً مأموناً ومرشحاً) في أثناء عملها في جامعة ويسكونسن مع حيوانات «ابن مقرض» — التي يشبه جهازها التنفسي العلوي الجهاز التنفسي البشري — ما قد يُعرضها لفيروس إنفلونزا الطيور القاتل (H5N1). وقد خضعت السلالة للتعديل الوراثي حتى يمكن انتشارها عبر الانتقال المحمول جواً بين الثدييات، الأمر الذي كان الباحثون يحاولون تحديد مدى إمكانية حدوثه.
سُمح لهذا التعديل الوراثي، المعروف باسم «البحوث الوظيفية»، باستئناف العمل في وقت مبكر من ذلك العام فقط بعد حظر استمر 5 سنوات تقريباً. وجاء الحظر في أعقاب احتجاج عام على الأنباء التي وردت في 2011 بأن الباحثين في ويسكونسن وهولندا تلاعبوا بفيروس إنفلونزا الطيور لكي ينتقل عبر الهواء إلى حيوانات «ابن مقرض»، وبالتالي، من المحتمل أن ينتقل بين البشر. لا ينتشر فيروس (H5N1) عادة بين الناس بسهولة، وذلك مصدر كبير للشعور بالارتياح لأن معدل الوفيات البشرية المعروف بالفيروس يبلغ نحو 50 بالمائة.
في حين أن الدكتورة يونغ قالت إنه رغم مطالبة مسؤولي الجامعة بالإبلاغ الفوري عن استنشاق الباحث لهواء الغرفة، فإنهم انتظروا شهرين لإبلاغ مكتب السياسة العلمية التابع للمعاهد الوطنية للصحة، الذي يشرف على البحوث الأميركية في مُسببات الأمراض المعدلة وراثياً، وشهرين تقريباً لإخبار لجنة السلامة البيولوجية الخاصة بالجامعة. قررت الجامعة بمفردها إنهاء الحجر الصحي للمتدرب من دون إخبار مسؤولي الصحة العامة على مستوى الولاية والسلطات المحلية.
في وقت لاحق، دافعت ممثلة الجامعة عن افتقار الجامعة للانفتاح للدكتورة يونغ بقولها: «أغلب الناس أيضاً غير مجهزين لتقييم المخاطر بصورة مناسبة». وأخبرت المعاهد الوطنية للصحة الدكتورة يونغ بأن مسؤولي الجامعة لم يعتقدوا أنه يلزم الإبلاغ عن الحادثة لأنهم شعروا بأنه «لا يوجد خطر معقول للتعرض للفيروس»، على الأرجح لأن الأنبوب كان منفصلاً لفترة وجيزة فقط عن مصدر الهواء النقي.
ومع ذلك، وخلال جائحة «كوفيد - 19»، عرفنا أن انتقال العدوى عبر الهواء يمكن أن يحدث في ثوانٍ قليلة وحتى على مسافة بعيدة.
تبين أن الباحث المتدرب لم يُصب بالعدوى، ولكن عبارة: «ثق بنا» لا تُشكل الاستجابة اللائقة لحالة كان من الممكن فيها أن يُصاب العالم بالعدوى فينشر الفيروس، حتى من دون ظهور أعراض واضحة.
تمثل إجراءات السلامة المخبرية المتراخية مشكلة عالمية. أفاد تحقيق أجرته صحيفة «واشنطن بوست» مؤخراً أنه في صيف 2019، أصيب مئات الأشخاص في لانتشو بالصين بالمرض إثر تعرض آلاف الأشخاص للبكتيريا التي يمكن أن تسبب داء البروسيلات، بعد أن فشل مجمع طبي حيوي تديره الحكومة في تطهير نفاياته بصورة سليمة. ووصفت ورقة علمية نُشرت في نوفمبر (تشرين الثاني) ذلك بأنه «ربما يكون أكبر حادث مختبري في تاريخ الأمراض المُعدية».
ومع ذلك، استغرق الأمر شهراً من السلطات الصينية لاكتشاف المشكلة وإصلاحها ثم 4 أشهر قبل إبلاغ الرأي العام.
يعد عدم الكشف في الوقت الحقيقي سمة شائعة للغاية في الكثير من حوادث المختبرات وحوادث السلامة البيولوجية؛ إذ أبلغ مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، في 2012، وفي أول تقرير منشور من نوعه، عن 11 حالة عدوى مكتسبة مختبرياً من المختبرات على مدى 6 سنوات. ولم يُبلغ عن أي منها أو اكتشافها ما لم يكتشف في وقت لاحق إصابة أحد العاملين في المختبر.
وفي بعض الأحيان، لا يعرف الباحثون شيئاً حتى عن أحد مسببات الأمراض الخطيرة في مختبراتهم. لم يُسم فيروس «ماربورغ»، الأكثر شبهاً بفيروس «إيبولا»، على اسم أي مكان كان متوطناً فيه، وإنما على اسم المدينة الألمانية التي حدث فيها أول تفشٍ معروف للفيروس عام 1967. كان عمال المختبر قد تعاملوا مع نسيج القرد المصاب بالفيروس الذي لم يكن معروفاً في ذلك الوقت. ثم توفي 7 أشخاص، وأصيب 32 آخرون. في عامي 2003 و2004، تسرب «سارس» من مختبرات في الصين، وسنغافورة، وتايوان مرات عدة بعد انتشاره الأولي، الذي نجحوا في احتوائه، إذ قالت منظمة الصحة العالمية إنه إذا عاد للظهور في أي وقت لاحق، فمن المرجح أن يكون بسبب كارثة مختبرية.
عندما يُخفي الباحثون المشكلات، قد يكون ذلك لأنهم يتجنبون الإحراج، ويأملون في نتائج أفضل.
وفي عام 2003، أصيب باحث في مرض «سارس» في أحد أكبر مختبرات السلامة البيولوجية في تايوان، كان على عجلة من أمره للحاق برحلة، عندما هُرع لتنظيف بقعة منسكبة. وسافر على أية حال، ثم صار مريضاً للغاية. وبدلاً من إبلاغ السلطات، فرض الحجر الصحي على نفسه. وقال والده إن نجله «أراد أن يموت في المنزل»، بدلاً من جلب العار على مختبره وعلى بلاده. ولم تظهر تلك الحادثة إلى النور إلا بعد أن هدد الأب اليائس بقتل نفسه ما لم يطلب ابنه المساعدة الطبية اللازمة.
وفي عام 2022، عرضت عاملة مختبر تُجري أبحاثاً حول فيروس «كورونا» المستجد في تايوان 110 أشخاص للإصابة بالفيروس بعد أن أصيبت هي بالعدوى، عندما أزالت كمامتها الواقية بصورة غير سليمة — ولم يُكتشف الخطأ حتى وقت لاحق، عندما جاءت نتيجة اختبارها للإصابة إيجابية. وفي عام 2003، كان المشرف عليها قد أصيب بـ«سارس» في المختبر. وأشارت مجلة العلوم آنذاك إلى أن ذلك كان «تذكيراً قاتماً، كما يقول الخبراء، بأن الباحثين الذين يحاربون مرض (سارس) قد يطلقون العنان لانتشاره العالمي القادم».
