وأنا أتجول أخيراً في شوارع العاصمة البلغارية صوفيا، التي تشهد مآثرها على تاريخ حافل يتقاطع فيه الإرث القيصري البلغاري والعثماني والسوفياتي وما بعد الشيوعي، تساءلت عن أوج التقارب والتقاطع ما بين التجربتين البلغارية والمغربية؟ وهل لقدَر ِالتجربة الإنسانية المختلِفة وسيلة لخلق التناظر بين المتباعِد ثقافياً وجغرافياً وتاريخياً؟ الشعب البلغاري شعب لطيف وبشوش ومتخلُق، يذكِّر بأخلاق معظم الشعوب العربية وببشاشة المغاربة ومرحهم وكرمهم.
من خلال حديثي مع أصدقاء مغاربة وبلغاريين في عاصمة هذا البلد السلافي الأوروبي كنت في بحث مستمر عن هذه التقاطعات التي تتحدى بُعْد المسافة. وخلال بحثي المستمر وَجَدْتُني أطرح السؤال التالي:
ما الذي يجمع بين ملك المغرب الراحل محمد الخامس (1927 - 1961) وملك بلغاريا الراحل بوريس الثالث (1918 - 1943)؟ لم يكونا صديقين كما كان ابناهما، الحسن الثاني (1961 - 1999)، وسيميون الثاني (1943 - 1996)، الذي أصبح رئيساً للوزراء ما بين 2001 و2005، فقد كانت لهما علاقة صداقة قوية خلال منفى سيميون خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن محمد الخامس وبوريس الثالث قاما بعمل بطولي في زمن سيطرة الأنظمة الفاشية، تمثَّل في مواجهة مخططات أدولف هتلر الإبادية تجاه اليهود والغجر وغيرهما.
إن بُعد المسافات واختلاف الثقافات لم يمنعا الملِكَيْن من أن يكونا على موعد مع التاريخ، من أن يقاوما الخوف ضد آلة التطهير العرقي النازية.
في يوليو (تموز) 1940 سقطت باريس في أيدي الألمان، وتمَّ تكوين حكومة «الدولة الفرنسية» تحت قيادة الماريشال بيتان، لإدارة شؤون فرنسا والمستعمرات، اسمياً من باريس، ولكن فعلياً من مدينة فيشي الواقعة في المنطقة «غير المستعمرة»، وهي حكومة تُسمَّى تخفيفاً وترخيماً «حكومة فيشي». وما دامت أنها كانت متعاوِنة بامتياز مع ألمانيا النازية، فإن مستعمرات مثل المغرب صارت فعلياً واسمياً تحت سيطرة هتلر. لهذا أصدرت أوامرها لتمييز اليهود عن غيرهم إيذاناً بتهجيرهم نحو أفران المحرقة في أوشفيتز وغيرها. كان اليهود يُكَوِّنون نسبة لا يُستهان بها من سكان المغرب، والبعضُ منهم يعود وجوده في هذا البلد إلى العهد الروماني.
ورغم أن حكومة فيشي أرغمت السلطان محمد الخامس على التوقيع على مرسومين للحد من عدد المناصب التي يتقلدها اليهود، ولإرغامهم على السكن في غيتوهات خاصة، فإن هذه السياسة لم يتم تطبيقها، لأن محمد الخامس رفض أن يحمل هؤلاء نجمة داود السداسية على صدورهم، قائلاً قولته الشهيرة: «ليس هناك في المغرب يهود ولكن فقط رعايا للسلطان»، مثلهم مثل المسلمين، (ريتشارد هورويتز: «عليك تذكر هذا: السلطان محمد الخامس حامي يهود المغرب»، «لوس أنجليس تايمز»، 25 أبريل/ نيسان 2017).
في برقية للحكومة الفرنسية تم العثور عليها في عقد الثمانينات من القرن الماضي، جاء فيها أن العلاقات بين فرنسا «المتعاوِنة» والمغرب صارت «أكثر توتراً» منذ تقديم هذه المراسيم ورفض السلطان أهمها، بل واستدعائه أعيان اليهود لحضور احتفالات عيد العرش (المصدر نفسه).
في الوقت ذاته، وعلى بُعْدِ حوالي 4000 كلم على الشمال الشرقي من المغرب، وبالضبط في مملكة بلغاريا، رفض الملك بوريس الثالث على الرغم من مساندة بلاده لألمانيا (كما كان الحال عليه في الحرب العالمية الأولى)، المشاركة في عملية «برباروسا»، وحمى اليهود البلغار من المحرقة، رغم غضب النازيين، وربما مساهمتهم في موته الغامض في منتصف 1943. في رسالة (وضعها رهن إشارتي صديق بلغاري) أرسلها عميد الشرطة السرية «الشوتز صطافل» (المعروفة بـالــ«س.س») والتر شيلنبيرغ، إلى وزير الدولة في الخارجية، مارتين لوثر، حول ما سماه «القضية اليهودية في بلغاريا» (الإرسال يوم 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1942) نجد وصفاً كاملاً لتردد الحكومة البلغارية بأمر من الملكبوريس الثالث في تطبيق التوجيهات الخاصة بعزل اليهود، وجعلهم يرتدون نجمة داود، ووضع علامات خاصة على متاجرهم ومقرات عملهم، وسلب أمتعتهم منهم، والقيام بدعاية إعلامية ضدهم. التوجه كان هو القيام بكل ما من شأنه أن يُسَهِل من مأمورية ترحيلهم المحتومة إلى أفران المحرقة. غير أن الملك بوريس والحكومة البلغارية كان لهما رأي آخر.
حكى لي صديقي القريب من العائلة الملكية البلغارية أن هتلر استدعى بوريس الثالث إلى مقر إقامته في جبال الألب في بافاريا لتأنيبه حول فشل الحكومة البلغارية في تنفيذ التعليمات الخاصة بعزل اليهود، والتحضير لإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال وأفران المحرقة النازية.
وكان جواب الملك بوريس الثالث هو أن مملكة بلغاريا تحتاج لسواعد اليهود لبناء البنية التحتية التي تحتاج لها البلاد. لم يقتنع الفوهرر بجواب الملك بوريس، ومن غير المستبعد أن موت هذا الأخير المفاجئ يوم 23 أغسطس (آب) 1943، أياماً بعد رجوعه من ألمانيا، كان أمراً مدبَّراً. (في كتابه «كيف حمى القيصر بوريس الثالث اليهود من بطش حليفه في المحور أدولف هتلر»، 2008، يقول ويلي فوكس إن طبيبي القيصر الألمانيين وجدا في جسده بقايا سُمٍّ ربما تم وضعه في طعامه خلال مُقامِه في ألمانيا).
لم يُكتبْ لمحمد الخامس وبوريس الثالث أن يلتقيا، لكن ابنيهما الحسن الثاني وسيميون الثاني التقيا، وأسسا علاقة صداقة دامت لعقود. سميون الثاني أصبح ملك بلغاريا رغم صغر سنه من 1943 إلى 1946 السنة التي دخل فيها الجيش السوفياتي البلاد، وساعد الشيوعيين البلغار على السيطرة على الحكم، والقيام باستفتاء لإزالة الملكية ووضع نظام جمهوري مكانه. كثيرون يعدون الاستفتاء غير شرعي لأن الدستور كان يقضي بأن أي تغيير في نظام الحكم لا يتم إلا عبر اجتماع للمؤتمر القومي الشامل وبدعوة من القيصر البلغاري نفسه.
إن الحقبة الشيوعية قرَّبت بلغاريا من النموذج السوفياتي المبني على الحكم الشمولي وتصفية المعارضين والاقتصاد الممركَز والمعتمِد على احتكار الدولة وسائل الإنتاج.
لقاء الحسن الثاني بسيميون الثاني جرى إبان منفى هذا الأخير في مدريد من 1951 إلى 1996. وتوطدت العلاقة بشكل كبير من خلال وجود العائلة الملكية البلغارية بالقرب من المغرب وزياراتها المتعددة له. بِنْت الملك سيميون الثاني، الأميرة كالينا، عبرَّت عن امتنان الأسرة المالكة البلغارية للحسن الثاني وللأسرة الملكية المغربية بتسمية ابنها الحسن سيميون مونيوز (مونيوز نسبة إلى والده كيتين مونيوز الرحالة والكشاف الإسباني المشهور والمؤسِس لمهرجان طنطا وسفير النيات الحسنة لدى اليونيسكو).
إن تقابل العمل الشجاع الذي قام به محمد الخامس وبوريس الثالث، في الوقت ذاته، وذلك من دون أن يتعرفا على بعضهما البعض، ربما هو ما قوّى علاقة الود بين الحسن الثاني وسيميون الثاني. ومن ثم فإنه حين يصير الممكن حقيقة يصبح المستقبل واعداً كذلك. وهو مستقبل ممكن قد تكتبه الأجيال المقبلة المفعمة بأخلاق التسامح التي أسس لها من تحدوا طاغوت القتل قبل ثمانين سنة، ووضعوا الأسس لمفترق طرق تلتقي فيه الشجاعة والأمل، وتتقاطع فيه التجارب أيضاً، رغم بُعْد المسافة واختلاف الثقافة.