عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

السودان: نهاية الصحوة والأفكار الملغومة

السودان يتقلب على جمر الفوضى وخطر الحرب الأهلية، والفوضى عنوان عريض لما يجري هناك، وكثير من الدول والمراقبين والمحللين لا يمتلكون رؤية واضحة لما جرى ويجري، وهذا الغموض يشير لاحتمالية حدوث شيء ما في الخفاء، ولا أحد يريد الحديث عنه، أو لا يمتلك معلومات دقيقة تجاهه.
من التعامي عن الحقائق والانسياق خلف الأوهام أن يصمت الكثيرون عن الإرث الأصولي الثقيل في السودان، فالسودان بلدٌ له قصة طويلة مع الأصولية والإسلام السياسي، فمنذ منتصف الثلاثينات الميلادية تقريباً فكر مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا في إنشاء فروع خارجية للجماعة خارج مصر، وفي الأربعينات تم إنشاء قسم الاتصال بالعالم الخارجي، أو مكتب الاتصال بالعالم الإسلامي الذي تطور لاحقاً لما بات يعرف بـ«التنظيم الدولي».
أحد أشهر العاملين في ذلك القسم كان يوسف القرضاوي الذي قال في كتابه «ابن القرية والكتاب» شارحاً لعمل هذا القسم: «وكنت أعمل في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وهو قسم أنشأه الإخوان ليهتم بقضايا العالم الإسلامي مشرقه ومغربه، ويجمع معلوماتٍ عنها، ويتصل بالجهات المؤثرة فيها»، وفي نهاية الأربعينات بدأت طلائع الطلاب المتأثرين بجماعة الإخوان المسلمين تصل إلى السودان.
في الخمسينات تطور هذا الحضور «الإخواني»، وأصبح حضوراً منظماً تحت مسميات مختلفة ورموز متعددة، وصولاً إلى لحظة الانقلاب الإخواني العسكري الذي قاده عمر البشير وحسن الترابي، فحكمت الحركة الأصولية السودان وتغلغلت في كل مناحي الحياة فيه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبنيت أجيالاً سودانية على أفكار أصولية إخوانية، حيث سيطروا على التربية والتعليم، وخرجوا في كل المجالات أجيالاً متعاقبة على مدى 3 عقود كاملة.
في 2018، أسقط الحكم الأصولي في السودان بانقلاب عسكري قاده البرهان من الجيش وحميدتي من الدعم السريع، وأودع عمر البشير السجن ومعه بعض القيادات، وقيل إن «الحركة الأصولية» و«الإسلام السياسي» قد انتهى في السودان، وبدأت البلاد مرحلة جديدة.
لا يسعف منطق التاريخ، ولا تساعد طبيعة البشر والمجتمعات، في بناء أي توجهٍ فكريٍ مقنعٍ بأن الحركات الآيديولوجية المنظمة يمكن أن تتبخر بين عشية وضحاها، أو أن انهيار نظام سياسي يلغي ثلاثين عاماً من عمله الفكري والآيديولوجي في مؤسسات الدولة والمجتمع، المدنية والعسكرية، بل على العكس من ذلك، فكل العلوم الحديثة تؤكد أن الأفكار لا تموت سريعاً، ولا تنقرض بسبب انقلابٍ عسكري.
«نهاية الصحوة» أو نهاية «الإسلام السياسي» حركاتٍ وتنظيماتٍ، خطابٍ ومبادئ وآيديولوجيات، هي أطروحةٌ فكرية وسياسية متداولة لدى البعض في العالم العربي لأسباب متعددةٍ، ولكنها أطروحةٌ مهترئةٌ لا تثبت لأي معيارٍ علميٍ أو مقياسٍ واقعيٍ، فهي أقرب إلى اللغو منها إلى العلم، وانتشارها يتفق مع انتشار ما سماه كاتب هذه السطور قبل سنواتٍ بـ«التفاهة الممنهجة».
ما يجري في السودان اليوم دليل على أن بعض الأفكار الخطرة قد تكون ملغومة وقد تكون قاتلة؛ ملغومةً لأنها تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر، وقاتلة لأنها قادرةٌ على خلق الفوضى وإحياء العنف وضرب الجهات المسلحة ببعضها البعض، وبحكم آيديولوجيتهم وتاريخهم، فإن عناصر الإسلام السياسي لا يقيمون وزناً لحياة البشر ولا لحرمة الدماء، بل يعتقدون أن صناعة الفوضى والثورات الدموية والانقلابات المسلحة جزء من الجهاد في سبيل الله.
قيل للسودانيين ما يقال لغيرهم من قبل ومن بعد، من أن الصحوة انتهت و«الإسلام السياسي» جماعات وأحزاباً وتيارات قد لفظ أنفاسه الأخيرة وانتهى إلى الأبد، وصدقهم بعض السودانيين لا كلهم، ويدفع السودان اليوم ثمن تصديق مثل هذه «الأفكار الملغومة».
قيل لهم - أيضاً - إن تنظير جماعات الإسلام السياسي ومبادئهم ومفاهيمهم وتنظيماتهم المستمرة منذ ثمانين عاماً قد تبخرت وتلاشت، وقيل لهم إن الحركة الإسلامية القديمة في السودان والحاكمة منذ ثلاثين عاماً قد انقرضت وأصبحت أثراً بعد عين، وصدقهم البعض لا الكل في غفلة عن قوانين التاريخ ونواميس الاجتماع البشري.
قيل لهم إن من يشكك في «نهاية الصحوة» و«جماعات الإسلام السياسي» إنما هو «مأزوم» و«متحامل» و«شكاك»، وكل الأدلة التي يسردها فكرياً وفلسفياً، واقعياً وتاريخياً، لا قيمة لها وهي تنظير فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع. وصدقهم البعض لا الكل للأسف الشديد، ويا حسرة على العقول في زمن التفاهة الممنهجة.
إن «الصحوة» ذات قرون، وليست نطحةً أو نطحتين كما جاء في الأثر، والتقليل منها ومن آثارها يخلف مثل هذا الموت والقتل والدماء، ويخلق مثل هذه الفوضى والحرب الأهلية، والسعيد من وعظ بغيره وتيقظ ليومه ومستقبله.
الظواهر البشرية لا يمكن تفسيرها بعاملٍ وحيدٍ، والتركيز على «الجانب الأصولي» مما يجري في السودان إنما هو لإبراز «المسكوت عنه»، وإعادته لمعادلات المشهد المعقد؛ لأن الجميع يبدو متفقاً على اطّراحه جانباً، مع التذكير بأن الدول التي استثمرت في «الربيع الأصولي» الذي كان يسمى زوراً «الربيع العربي» قبل عقدٍ من الزمن إقليمياً ودولياً، ما زالت موجودة وفاعلة وقوية، وتمتلك الكثير من الأدوات السياسية والآيديولوجية والمالية والإعلامية، ومن استثمر عقوداً في جماعاتٍ وأحزابٍ ورموزٍ سياسيةٍ لا يعقل أن يتخلَّى عن استثماراته ونفوذه وقوته ومصالحه من دون مقاومة، والعهد قريب والذاكرة حية.
في زمن «التفاهة الممنهجة» يصبح نقد الأفكار والتوجهات مجرد موضةٍ فكرية،ٍ وطفرةً سوشلية يحسب المشاركون فيها أن الأفكار والمبادئ والجماعات والأحزاب والآيديولوجيات والعقائد يمكن أن تنتهي بتغريدة أو منشورٍ أو مقطع فيديو، وأن «الهاشتاق» أو «الترند» اليومي السريع يمكن أن يقضي على «تربية المحاضن»، و«تجنيد الأجيال» و«بناء الأدمغة» الذي استمر لعقودٍ من الزمن، ومن يفكر بهذه الطريقة حريٌ بالهزيمة النكراء؛ لتجاهله العلوم المتكاثرة وطبائع البشر المستقرة وخطورة الأفكار.
خلْق الفوضى داخل السودان وبين القوات العسكرية فيه يفتح المجال للتدخلات الخارجية، إقليمياً ودولياً، والدول تبعٌ لمصالحها حيث لا عواطف ولا مشاعر آنيةٍ، وإنما مصالح دائمة، ومن الطبيعي أن تعمل كل دولةٍ وفق رؤيتها ومصالحها وعلاقاتها المستقبلية مع بلدٍ بحجم السودان ومنطقة بحجم شرق أفريقيا.
أخيراً، فالقارئ الحصيف يحسن ربط الجدالات الفكرية بالأحداث الواقعية، وقوة الفكر والتحليل تمتحن حين تسخن الأحداث وتتعقد المشاهد، ويبقى الأمل في أن يخرج السودان من أزمته.