مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

مسيحيو لبنان وجناية فرنسا

لم تترك باريس بابا إلا وطرقته، ولم تترك نافذة إلا وتحاول الدخول منها، لم يتردد رئيسها المثير للقلق وليس فقط للجدل في استغلال زيارته الأخيرة لبكين لكي يُظهر تماهيا مع أجواء الاتفاق السعودي الإيراني، ولكن غايته في ذلك تحقيق مبتغاه اللبناني، في إيصال مرشح الثنائي الشيعي لسدة الرئاسة، لذلك لا يمكن الفصل أيضا ما بين تصويبه على واشنطن في تصريحاته أثناء زيارته الأخيرة للصين وما بين محاولاته أن يتمايز شرق أوسطيا عن شريك بلاده التقليدي الولايات المتحدة. هذا التمايز وإن كان يحمل في ظاهره مقاربة إستراتيجية مختلفة في بعض نواحيها عن الموقف الأميركي، إلا أنها في باطنها تحمل دوافع اقتصادية تضع في صلب أهدافها مصالح الشركات الكبرى الفرنسية على حساب علاقات باريس التقليدية في منطقة شرق المتوسط وتحديدا في لبنان وللتحديد أكثر مع مسيحييه.
في الاستحقاق الرئاسي اللبناني يمكن القول إن «الأم الحنون» (فرنسا) كما يطلق عليها اللبنانيون قد تخلت عن أبنائها المسيحيين، ففي رأي أغلبيتهم أن تصرفاتها تجاوزت مسألة التخلي ووصلت إلى مرحلة الظلم، هذا الظلم لا يُختصر في معناه الرئاسي في خيارات باريس الانتخابية، بل إنه يضرب بعرض الحائط هواجسهم المستقبلية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ويهدد ما تبقى لهم من دور، لأن هناك من يربط دورهم بعددهم، ويحاول استغلاله من أجل استكمال هيمنته على الدولة والمجتمع والاقتصاد بمباركة باريس، لذلك يستخدم ما لديه من فوائض قوة للالتفاف على الصيغة والدستور واتفاق الطائف الذي تمسك بالشراكة الإسلامية المسيحية وبالمناصفة بينهما ويمنع ربط الدور بالأحجام. فما تتجاهله باريس أن هناك ضرورة للحفاظ على دور حيوي لمسيحيي لبنان حماية للتعددية التي تتقلص في منطقتنا، بعدما وللأسف باتت شبه معدومة في سوريا والعراق وتقاوم من أجل مجرد البقاء في القدس، بسبب الهجرات الجماعية في هذه البلدان والحروب الأهلية والاحتلالات والتهميش والقمع الممنهجين.
يمكن القول إن خيارات باريس الرئاسية الخاطئة مكمّلة لأخطاء تاريخية ارتكبتها جهات سياسية مسيحية لبنانية معروفة عدّت نفسها في مرحلة ما تحتكر تمثيلهم، ودغدغت مشاعرهم المُحبطة بأنها قادرة على تعويضهم ما خسروه من امتيازات بعد نهاية الحرب الأهلية ورفع التهميش الذي فرضته سياسة الوصاية السورية، ومن ثم تماهت مع حلف الأقليات ووضعت المسيحيين في موقع مخالف لطبيعتهم. وكان الأخطر انفجار مرفأ بيروت الذي دفعهم إلى هجرة جماعية جديدة بعدما تحطمت آمالهم التي حاولوا استعادتها في 17 تشرين بعدما تحطمت مدينتهم وكل ما يرتبط بتراثهم. وهم الآن ليسوا وحدهم، بل إن لبنان أمام مرحلة نزيف ديمغرافي جديد ستطال ما تبقى من طبقة متوسطة إضافة إلى نخب وكفاءات تستعد للرحيل، إذا ما حصلت انتكاسة سياسية جديدة وأصرت باريس وحلفاؤها الجدد في محور الممانعة على فرض مرشح من داخل منظومة السلطة يضمن استمرارها ويضمن مصالح فرنسا على حساب خيارات اللبنانيين بالعام والمسيحيين بالخاص.
فعليا كانت انتفاضة 17 تشرين لحظة وطنية جامعة تخلت فيها الجماعات والأفراد عن جزء من هوياتهم الفرعية، لصالح هوية وطنية جامعة، وكانت التعددية السياسية المسيحية واحدة من أوراق الغنى الاجتماعي والثقافي للحياة السياسية اللبنانية غير الموجودة لدى جماعات أخرى، والتي تتعرض الآن لاستهداف ممنهج تشارك فيه باريس بجناية موصوفة ويتحمل أعباءها المسيحيون الذين يدافعون عن آخر مواقعهم في الدولة، لذلك لا يمكن أن يكون الرفض لمرشح باريس الرئاسي مسيحيا فقط، بل المطلوب غطاء وطني يضع حدا للذين يراهنون على انقسام مسيحي مسيحي أو إسلامي مسيحي من أجل تمرير صفقتهم.
يقول سمير حميد فرنجية في كتابه «رحلة إلى أقاصي العنف» عن تجربة لقاء قرنة شهوان المعارض: «في تلك المرحلة أدرك ممثلو المعارضة المسيحية ضرورة خوض معركة الاستقلال على قاعدة وطنية لا طائفية، ولذلك أصدروا بيانهم التأسيسي بتاريخ 30 نيسان 2001 في صيغة نداء إلى جميع اللبنانيين ولا سيما المسلمين منهم من (أجل حوار وطني)»، وهو النداء الذي تحتاجه المعارضة المسيحية وغير المسيحية الآن من أجل منع باريس من ارتكاب جنايتها.