جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

الإقليمية الجديدة... وإعادة ترتيب موازين القوى

في العيادة السياسية، تخلّى الأطباء عن الدواء التقليدي، الذي اعتادوا وصفه منذ نهاية الحرب الباردة، فلم يعد هذا الدواء يناسب أمراض هذه المرحلة، فالأوجاع مختلفة، والتشخيص يقول إن الآلام السياسية الحالية، تحتاج إلى دواء من نوع «التركيب»، وليس سابق التجهيز.
فالخرائط باتت لا تفرّق بين خسائر دول الجوار القريب والبعيد، ارتفعت فواتير الصراعات والخلافات، بعد جائحة «كورونا»، والحرب الروسية - الأوكرانية، تبدّلت موازين القوى، كلٌّ بات يبحث عن تأمين مصالحه على المدى البعيد.
مستوى التحديات يفرض علينا قاموساً بمفردات جديدة، العالم يعيد ترتيب حساباته، الشرق الأوسط يرسم ملامح خصوصية جديدة، أطرافها لم يكونوا على وفاقٍ، طوال العقود الأربعة الماضية، ظلت العلاقات بينهما رهن الضغوط والتأثيرات الخارجية، اليوم نحن أمام عالم جديد وشرق أوسط مختلف، يفرض أدواته نحو «إقليمية جديدة وعالم متعدد الأقطاب».
فمن ينظر لخريطة العالم اليوم، تتأكد له هذه التغيرات العميقة، روسيا تقترب من الصين بقوة، وفرنسا تبحث عن الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا عن الصين وأميركا، وروسيا تطالب بنعي عالم القطب الأوحد، في حين أن واشنطن تتمسك بالقرن الأميركي الحالي، والشرق الأوسط يدفن خلافاته الممتدة عبر أزمنة طويلة، ثمة تغيرات سريعة ومتلاحقة وفارقة، تؤسس لعالم جديد يمتلك مقومات الدواء غير التقليدي لأوجاع الحاضر.
فالإقليمية الجديدة، التي هي قيد التشكيل، تقوم على فتح المسارات بين الدول العربية، وبين بعضها وبعض، وطي خلافات الماضي، بهدف تصفير المشاكل العربية التي أطلت برأسها منذ ما يسمّى «الربيع العربي»، وتركت جروحاً غائرة في الجسد العربي، أدرك الجميع أن هذه الطريق لن تفضي إلى استقرار الدول والشعوب، لا بد من تصحيح المسارات العربية في كل الاتجاهات، بدأ هذا المسار العربي يوم 4 يناير (كانون الثاني) 2021، في بيان «العلا» الشهير، الذي وصلت محطاته الآن إلى سوريا، والسعي الحثيث لاستعادة دمشق إلى مكانها الطبيعي في بيت العرب، كدولة عضو بالأمم المتحدة، ومؤسس لجامعة الدول العربية، فضلاً عن الحلحلة الواضحة للأزمة اليمنية، واستعادة العلاقات الدبلوماسية البحرينية - القطرية.
أما على مستوى الشرق الأوسط، فنلحظ جيداً الانفتاح التركي على العالم العربي، وعودة الدفء للعلاقات التركية مع مصر والسعودية والإمارات، هذا بالإضافة إلى التحركات الجادة لإنهاء الخلافات بين أنقرة من ناحية، ودمشق وبغداد من ناحية أخرى، ناهيك بالبيان الثلاثي «الصيني - السعودي - الإيراني» الذي ألقى بحجر كبير في مياه الشرق الأوسط، ليخلق حالة من تدفق الأمواج السياسية، والتفاعلات الاستراتيجية، بهدف إعادة رسم ملامح جديدة لشكل العلاقات، وتوازنات المصالح بين دول المنطقة، بما يتفق مع روح القانون الدولي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
أما إذا تحدثنا عن بصمات وترجمة الإقليمية الجديدة، على الصعيد الدولي، فنجد أن هناك مشروعات للتعاون الإقليمي بين الولايات المتحدة الأميركية، والمكسيك، وأيضاً مع كندا، التي أصبحت الشريك التجاري الأول لواشنطن، بنحو تريليون دولار سنوياً، وفي أميركا اللاتينية، نرى سعي البرازيل والأرجنتين، لصك عملة موحدة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية المشتركة، الأمر الذي يؤكد أننا أمام مفهوم جديد للشراكة، سواء في الشرق الأوسط أم في العالم، يعطي الأفضلية للتعاون الإقليمي بين الدول القريبة والمجاورة، لا سيما بعد المشاكل التي لا تزال مستمرة في سلاسل الإمداد، جرّاء جائحة كورونا، والحرب الروسية - الأوكرانية، ومن ثمَّ، هناك تحركات كبرى تتم الآن لتوحيد الرؤى والمواقف بين الدول العربية، ودول الجوار الشرق أوسطي، من أجل تعزيز التجارة البينية، وزيادة الاعتمادية الإقليمية، التي تقوم على الاستفادة الكاملة من الموارد والمقدرات التي لدى الدول، التي تربطها جغرافيا واحدة، وإقليم واحد، وهو إقليم الشرق الأوسط، وذلك للعبور من الضغوط والتداعيات السلبية، التي نراها الآن في أوروبا والغرب.
أما على الصعيد الدولي، فنجد أن هناك تعدداً للأقطاب، وإعادة ترتيب لموازين القوى، بما يضع حدّاً لهيمنة القطب الواحد، الذي بدأ ليلة 25 ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، عندما انهار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين.
فاليوم، نشهد تقارباً غير مسبوق، بين روسيا والصين، تترجمه 200 مليار دولار، حجم التجارة البينية بينهما، كل ذلك يتزامن مع سعْي كلٍّ من الصين والبرازيل، إلى إبرام صفقات عملاقة بالعملات المحلية للبلدين، بما يحد ـ على المستوى الدولي ـ من هيمنة الدولار، الذي بات في العام الحالي، أقل وجوداً وحضوراً في البنوك المركزية الدولية، بنسبة تصل إلى 41 في المائة، بعد أن كان وجوده يصل إلى 53 في المائة قبل الحرب الروسية - الأوكرانية، هذا فضلاً عن نجاح وصعود المنظمات الإقليمية الجديدة مثل منظمتي «شنغهاي» و«الآسيان» اللتين تطرحان نماذج لتعاون إقليمي، لم يشهده العالم منذ ظهور الدولة الوطنية.
إذن، كل هذه التحالفات والتكتلات التي يشهدها العالم والشرق الأوسط، ترسخ لمبدأ ومفهوم الإقليمية والتعاون الإقليمي، بجوار التعاون الدولي، والعابر للحدود، الذي اتسمت به العلاقة بين الدول منذ تسعينات القرن الماضي، وبما يضعنا أمام إقليمية جديدة، سيكون لها تأثير، ليس فقط على محيطها، بل في إعادة ترتيب الأقطاب الدولية.