كان «فرانسيس فوكاياما» قد شاع وذاع اسمه عندما كتب عن «نهاية التاريخ»، ولكن الواقع هو أن أهم كتبه على الإطلاق بعنوان «الثقة» أو «Trust»، التي هي الرابطة الأساسية في تقدم العالم المعاصر، فالمجتمعات تتكون لأن بين أفرادها «رواية» مشتركة تسمي الهوية، ولكنها لا تستمر دون مصالح تجمعها، ودون تحديات تواجهها، وربما تهديدات تخاف منها، فيكون ذلك بذرة ما نسميه «القومية». ولكن أعظم ما يجعل المجتمع مجتمعاً بحق وفقاً لفوكوياما هو «الثقة» الواقعة بين الأفراد والأسر والجماعات الفرعية.
صحيح أن المجتمعات تحكمها عادات وتقاليد، وقوانين ودساتير، وسلطات لها أسنان من القوة والمحاكم والسجون؛ ولكن كل ذلك لا يقيم مجتمعاً اجتمع أفراده على الشك والتوجس وعدم الثقة في الآخر. ولكن الثقة ليست فقط ضرورية بين المجتمعات، وبين الجماعات داخل المجتمع الواحد، وإنما أيضاً بين الإنسان والبيئة التكنولوجية التي يعيش فيها. وفي دول كثيرة يوجد حذر شديد من التعامل مع ماكينات البنوك للحصول على الأجر أو المعاش، لأن هناك انعداماً للثقة في أن تلك الماكينة العجيبة لن تبتلع بطاقة الائتمان، أو أنها بعد إدخال كلمة السر سوف تلبي بإخراج النقود. في العالم كله أخذت الآلة وقتاً حتى يثق بها الإنسان الذي كان يعرف فقط الثقة أو عدم الثقة في إنسان آخر، سواء كان منتجاً أو مستهلكاً أو في هذه الحالة صرافاً، مهما كان في الأمر ازدحام. وإذا كان ذلك مطلوباً داخل الدول، فإنه «الثقة» لا تقل أهمية في مجتمع الدول، بل إن الأهمية قد تزيد؛ والسبب هو أن النظام الدولي يشكل تنظيماً لحالة من «الفوضى» بسبب وهن القانون الدولي، وضعف الهيئات المنظمة مثل الأمم المتحدة التي لا تملك قوة الحكومات المالكة داخل الدول لوسائل الثواب والعقاب واحتكارها الكامل للسلاح واستخدامه. وهنا تحديداً تقبع أهمية قدرة الحفاظ على الأسرار بين دول العالم، وهو امتحان كثيراً ما سقطت الولايات المتحدة فيه.
التاريخ الأميركي المعاصر يشهد على صعوبة حفظ الأسرار السياسية التي تتفاعل فيها واشنطن مع دول أخرى؛ وفي جيلي وحده شهدنا الكثير من الأسرار المفضوحة خلال إدارات أميركية متعددة خلال نصف القرن الماضي. أول إشارة إلى عمليات «تسريب» للمعلومات من داخل صندوق صنع القرار الأميركي جاءت مع ما عرف وقتها بـ«أوراق البنتاغون»، وهو تقرير حكومي أميركي سري من 7 آلاف وثيقة سربت في عام 1971 بواسطة موظف مدني في وزارة الدفاع، ونشرت في صحف أميركية. احتوت الأوراق على تقارير عن التورط السياسي والعسكري التاريخي لوزارة الدفاع في فيتنام خلال الفترة الممتدة من 1945 حتى 1967، وتوثق تفاصيل السياسة الأميركية مع فيتنام بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن يعرف الشعب الأميركي حقيقة ما يجري في فيتنام، ولكن هذه الوثائق صدمت الشعب الأميركي وكشفت له حقيقة ما يجري في ذلك الوقت. وأثار تسريب الوثائق ضجة كبرى في الولايات المتحدة وقتئذ، وكان منطلق الشهرة العالمية لصحيفتي «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» بعد نشرهما الوثائق، ومن بعدهما صحف أخرى، وهو ما جعل الإدارة الأميركية وقتها تصدر قراراً بوقف نشر تلك الوثائق بدعوى ضررها على مصالح الأمن القومي. كان التسريب سياسياً للضغط من أجل وقف الحرب التي لم يعد الشعب قابلاً بها. وفي ذلك الوقت، وقد زادت عمليات التسريب في الإدارة الأميركية، اقترح وزير الخارجية هنري كيسنجر إنشاء فصيلة من «السباكين» أو Plumbers لسد الثغرات التي تتسرب منها أسرار الدولة. فيما بعد، أشار الجنرال «ماكماستر»، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس دونالد ترمب، إلى الدور الذي لعبته هذه الفضيحة في هزيمة أميركا في فيتنام في رسالته للدكتوراه التي صارت فيما بعد كتاباً بعنوان «التقاعس عن الواجب» أو «Dereliction of Duty».
الأوراق أصبحت جزءاً هاماً من التاريخ الأميركي، جرى تتبعه في كتب، كما ظهر في أفلام سينمائية للتدليل على صحوة وحرية الصحافة الأميركية، من دون إشارة إلى الأثمان المدفوعة سياسياً وعسكرياً لنشر هذه الأوراق. ولكن ذلك، كان زمن «فضيحة ووترغيت» التي انتهت التسريبات عنها من داخل البيت الأبيض إلى إجبار الرئيس ريتشارد نيكسون على الاستقالة. ولم يمض كثير من الزمان حتى تكشفت فضيحة أخرى غذتها تسريبات كثيرة من البيت الأبيض سميت «إيران غيت» أثناء إدارة الرئيس رونالد ريغان، الذي قام وقت عداء شديد بين واشنطن وطهران بتزويد إيران بالسلاح إبان الحرب العراقية الإيرانية، بهدف تقوية جبهة «المعتدلين» الإيرانيين في إيران. وفي عهد الرئيس بيل كلينتون، كان التسريب من نوع آخر، حينما تسربت أنباء العلاقة الحميمية بين رئيس الولايات المتحدة والمتدربة الأميركية مونيكا لوينسكي. في عهد الرئيس جورج بوش الابن، تسربت الرسائل الإلكترونية للقيادة والجيش الأميركي وحلفاء الولايات المتحدة، من خلال ما بات يسمى فضائح «الويكيليكس» التي كان جوهرها التعريض بالفشل الأميركي في العراق. خلال زمن الرئيس دونالد ترمب لم تكن هناك حاجة لكثير من التسريب لأسرار البيت الأبيض حيث لم يمض كثير من الوقت منذ تولي الإدارة للسلطة حتى بدأ عدد من العاملين بالبيت الأبيض في الخروج وإصدار الكتب عن أسراره.
الآن ظهرت مجموعة من الوثائق السرية التي تتناول بالتفصيل أسرار الأمن القومي للولايات المتحدة على مواقع التواصل الاجتماعي. المجموعة الأولى التي جرى تداولها على مواقع مثل «تويتر» و«تلغرام» تحمل تاريخ الأول من مارس (آذار) وأختاماً تشير إلى تصنيفها بأنها «سرية» و«سرية للغاية». ولما كان تسريب مثل هذه الوثائق الحساسة شأنه أن يؤدي تلقائياً إلى إجراء تحقيق، فقد قالت وزارة الدفاع الأميركية إن تسريب وثائق سرية يطرح خطراً أمنياً «جسيماً»، مشيرة إلى أن بعضها تعرض للتعديل. هذا التسريب لوثائق سرية، كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز»، لم يشمل فقط تقارير ووثائق متعلقة بالنزاع في أوكرانيا، لكنه تعلق أيضاً بتحليلات حساسة جداً بشأن حلفاء الولايات المتحدة.
وحسب الصحيفة، فإن عدد الوثائق المسربة قد يصل إلى أكثر من 100. وأبرزها وثائق تصف حالة الجيش الأوكراني، وخطط واشنطن والناتو لدعم قوات كييف، ووثائق تكشف نية إسرائيل تزويد أوكرانيا بالأسلحة، ووثائق تكشف تجسس واشنطن على مسؤولين في كوريا الجنوبية، ووثائق تتحدث عن دعم الموساد للاحتجاجات ضد حكومة بنيامين نتنياهو، ووثائق تكشف تجسس الولايات المتحدة على الرئيس الأوكراني. هذه النزعة الأميركية لتسريب الأسرار الحيوية للدولة لا تعكس ما يظهر من حريات صحافية، كما تظهر من الإيماءات الأميركية عن الموضوع. وإنما التعقيد الكبير للنظام السياسي الأميركي، وخاصة داخل مؤسسة الرئاسة الأميركية، حيث يوجد مجلس الأمن القومي، وعلاقاته بمؤسسات الدولة المختلفة في الكونغرس والإدارات الأميركية الهامة، مثل وزارتي الدفاع والخارجية والمخابرات المركزية الأميركية، حيث تختلط المنافسات السياسية الداخلية بالحقائق الكبرى للأمن الأميركي، وربما العالم أيضاً.
8:7 دقيقه
TT
تسريبات السياسة الأميركية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة