نيكولاس كريستوف
TT

الولايات المتحدة.. أرض القيود

نحب أن نتباهى بأن أميركا هي أرض الفرص، كما أن هناك دلائل تاريخية على ذلك.
يا له من طموح جميل، تلك الرؤية التي جلبت والد روبيو إلى الولايات المتحدة، ووالدي كذلك. ومع ذلك فإنني أخشى أنه بحلول عام 2015 تحولنا إلى مجتمع جامد اجتماعيا، ذلك الذي فرّ منه أجدادنا، مكررين ذات الحواجز والفجوات الطبقية التي دفعت بالأوائل بعيدا. ذلك ما ينبغي أن يتناقش بشأنه المرشحون الرئاسيون.
بمقياس آخر فإن «مرونة الدخل السنوي بين الأجيال» أي أعلى حراك اجتماعي ممكن في كندا هي أعلى بمقدار الضعف عنها في الولايات المتحدة.
لاحظ آلان كروغر خبير الاقتصاد في جامعة برنستون، أن علاقة الدخل السنوي للآباء والأبناء، في الولايات المتحدة، تشبه العلاقة بين قامة الآباء وقامة أبنائهم. بعبارة أخرى «احتمال أن ينتقل الطفل المولود لأسرة تنتمي لفئة الـ10 في المائة الدنيا إلى فئة الـ10 في المائة العليا من توزيع الدخل السنوي، يتشابه مع احتمال أن تتعدى قامة طفل يبلغ طول والده 5 أقدام و6 بوصات عند البلوغ 6 أقدام وبوصة واحدة». ويقول كروغر في نهاية ملاحظته «إن ذلك قد يحدث ولكن ليس كثيرا».
استقيت مثل تلك الأفكار بسبب صديق لي من مسقط رأسي في مدينة يامهيل في ولاية أوريغون. ويدعى ريك غوف، كان رجلا ذكيا وموهوبا ومجتهدا، ولكنه واجه معاناة شاقة منذ مولده، وكنت قد كتبت عنه قبل عام كمثال على القول المأثور: «الموهبة كونية، ولكن الفرصة ليست كذلك».
والآن لقي ريك حتفه. توفي الشهر الماضي إثر مرض بالقلب في مسقط رأسه بمدينة يامهيل عن عمر يناهز 65 عاما.
كنت زائرا له قبل يوم وفاته، حيث كان متألما ويكافح من أجل أن يمشي، وظللت أفكر في مواهبه المذهلة التي لم يستفد منها أبدا، في الولايات المتحدة. إن أفضل التنبؤات بمكان نهايتنا هو من أين بدأنا.
ريك، الذي كان يعتقد بأصوله الأميركية - الهندية، عمل إلى حد كبير على تنشئة ذاته، إلى جانب شقيقه وأختيهما. توفيت والدته عندما بلغ الخامسة من عمره، أما والده - السكير المحترف، كما أخبرني ريك ذات مرة - فقد هجر الأسرة وتخلى عنها. تولت رعايتهم جدتهم لوالدتهم، وانطلق الأطفال في القنص والصيد لتوفير الطعام للعائلة.
بدت المدرسة وكأنها المصعد السحري لحياة أفضل، وكان ريك يمتلك عقلا رائعا، ولكنه كان يعاني منذ طفولته من اضطراب نقص الانتباه غير المشخص، وكان سببا في رفض المعلمين له. وفي الصف الثامن، عاقبه مدير المدرسة لتخلفه عن الحضور بأن حرمه من الذهاب للمدرسة لمدة ستة أشهر. وكان ريك سعيدا للغاية بذلك. وفي الصف العاشر ترك الدراسة برمتها وللأبد.
عمل ريك في مصانع الخشب وورش الماكينات، ثم تحول إلى عامل دهان موهوب في دهانات السيارات. وبعد حادثة قاسية تعرض لها وكلفته يديه، واصل حياته من معاش المعاقين وبعض الوظائف الغريبة. ولم يكن هاتفه يعمل إلا إذا توفرت لديه الأموال لسداد الفواتير.
ولقد تزوج مرتين وطلق مرتين، وربى أطفاله كوالد وحيد، وكان صديقا وفيا لكل من حوله. وقبل بضع سنوات، كان ريك يتعافى من مرض شديد، وكان يعتمد في ذلك على دواء مهم لحالته. ثم ساءت حالته الصحية وتحتم دخوله المستشفى.
وبدا أن سيارة زوجته السابقة قد سحبتها إدارة المرور، وكان لزاما عليها سداد رسوم معينة لاستعادتها. فما كان من ريك إلا أن أعطاها 600 دولار وتخلى عن علاجه. وذلك ما دفع به للإقامة في المستشفى.
أجل، فعل ذلك لأجل زوجته السابقة.
وخلال العام الماضي، كتبت سلسلة بعنوان «عندما لا يحصل البيض على شيء» وهي حول الفجوات العرقية (ولم يكن رد الفعل حيالها مشجعا على أي حال!). كما أعتقد أن الكثير من الأميركيين الناجحين لا يحصلون على الدخول التي يستحقونها.
كان شون ريردون من جامعة ستانفورد قد حسب أن الفجوة العرقية في درجات اختبارات الطلاب قد تقلصت، في حين أن الفجوة الطبقية اتسعت. منذ نصف قرن تقريبا، كان الفجوة في نتائج اختبارات السود - البيض أكبر بنسبة 50 في المائة من الفجوة بين نسبة الأكثر ثراء (10 في المائة) والأكثر فقرا (10 في المائة). أما الآن فصار الوضع على العكس تماما، حيث تعادل الفجوة الطبقية ضعف الفجوة العرقية.
ماذا لو أن نسبة 77 في المائة من البالغين في نسبة الدخل الأعلى المقدرة بـ25 في المائة يحصلون على درجة البكالوريوس عند سن الـ24 عاما. فإن نسبة 9 في المائة فقط من البالغين في نسبة الدخل الأدنى المقدرة بـ25 في المائة يتمكنون من ذلك.
وكما لاحظ تيم وايز في كتابه الذي يصدر قريبا بعنوان «في ظلال الثراء»، فإن هناك سردا انتقاديا معيبا ومتزايدا من القسوة لأولئك ألقابعين في أدنى درجات سلم المجتمع.
وكان الموسيقار تيد نوغنت قد أشار إلى أن «الحائزين» في المجتمع هم «أوتاد الاستحقاق» و«الخنازير الشرهة اللا - إنسانية». في حين وصف المؤلف المحافظ نيل بورتز الفقراء بأنهم مثل «فطريات الأظافر».
بكل تأكيد، أن الاستحقاقات هي من قضايا المناقشات المشروعة. ولكن إذا كنت تعاني من الوجبات المدعمة المعلنة، فماذا عن 12 مليار دولار من الإعانات الضريبية السنوية لوجبات الشركات والترفيه؟ وإذا ما أردت مشاهدة عملية احتيار حقيقية، فماذا عن أصحاب المليارات الذين يطالبون بتخفيضات ضريبية ضخمة من أجل التبرع بالفنون لمتاحفهم الخاصة غير الربحية، التي لا يمكن فتحها حتى للأشخاص الذين يمرون بجانبها؟
أسمع أشخاصا يقولون شيئا مثل: لقد نشأت فقيرا، ولكنني عملت بجد واجتهاد وحققت أحلامي، وأنه إذا حاول الآخرون واجتهدوا، فسوف يصلون لمبتغاهم أيضا. حسنا! بكل تأكيد، هناك أناس استثنائيون تمكنوا من التغلب على عقبات عسيرة، ولكنهم مثل لاعبين قصار القامة في أندية كرة السلة الوطنية.
تذكروا أن العيب يكمن لدى البيئة أكثر من الدخل السنوي. إن أفضل المقاييس لفقر الأطفال ليست مقاييس نقدية، ولكن عدد المرات التي تقرأ فيها للطفل أو تحتضنه. أو على العكس من ذلك، عدد المرات التي يتعرض الطفل فيها للضرب، وعدد المرات التي يتعارك فيها الأبوان بسبب الخمور، وهل هناك تسمم بالرصاص في المنزل، أو أن العدوى الهوائية بالأمراض تمر مرور الكرام. ذلك هو الفقر الذي يصعب الفكاك منه.
يظن البعض أن النجاح لا يدور إلا حول «الاختيارات» و«المسؤوليات الشخصية». أجل، تلك المعايير حقيقية، ولكنها تحمل قدرا عميقا من التعقيدات أكثر مما تُظهر.
لاحظ البروفسور ريردون أن «الأطفال الأثرياء يتخذون الكثير من الخيارات السيئة. وهي لا تعود عليهم بنفس القدر من العواقب».
اعترف ريك بأنه اتخذ خيارات سيئة. فلقد احتسى الخمور، وتعاطى المخدرات، وألقي القبض عليه أكثر من 30 مرة. ولكن كانت لديه القوة أيضا للتوقف عن تناول الكحوليات حينما أحسن بأنه سوف يتحول إلى نسخة من أبيه. لم تكن الخيارات السيئة هي أبرز مميزات ريك، ولكنه الذكاء، والاجتهاد في العمل، ونقص الفرص.
لذا، دعونا نسقط من حساباتنا تلك الداروينية الاجتماعية. ليس النجاح دليلا على الفضيلة. بل إنه في الغالب إشارة إلى أن أجدادك أحسنوا فيما كانوا يفعلون.
في ذات الأثناء، يعيش الكثير من الأطفال في أميركا حياة فقيرة حاليا (22 في المائة في آخر إحصاء) أكثر مما كان عليه الوضع في بداية الأزمة المالية لعام 2008 (18 في المائة). إنهم لا ينشأون في «أرض الفرص»، ولكن في خضم التراتبية الهرمية المجتمعية الصارمة التي فرّ منها أجدادنا منذ قرون، ذلك المجتمع الذي تتحدد فيه نتيجة حياتك وفقا لبدايتك.
والآن، ذلك ما ينبغي على المرشحين الرئاسيين التناقش بشأنه.
* خدمة: {نيويورك تايمز}