يرتبط موضوع تأملاتي، اليوم، بواحدة من أكثر البلدان ثراءً بالموارد في جنوب شرقي آسيا، وهي جمهورية اتحاد ميانمار (بورما سابقاً). فبسبب هذه الميزة وموقع هذا البلد الاستراتيجي، فإنه يلعب، اليوم، دوراً مهماً في المواجهة الاستراتيجية في هذه المنطقة بين القوى العالمية، وقبل كل شيء، بين الصين والولايات المتحدة، إذ تتعاون بكين، بشكل وثيق، مع القيادة العسكرية في ميانمار، بينما تدعم واشنطن المعارضة المسلحة في هذا البلد.
ويتحدد موقف الصين في الصراع، من خلال مصير مشاريع البنية التحتية الخاصة بها، وعلى وجه الخصوص، نظام خطوط الأنابيب الحالي لنقل الهيدروكربونات، حيث ستسمح السيطرة عليه لجمهورية الصين الشعبية، بإكمال بناء ممر يربط مقاطعة يونان الصينية بخليج البنغال، وبالتالي تقليل اعتمادها على عبور الطاقة عبر مضيق ملقا المعرَّض للخطر. وفي المقابل، تمتلك ميانمار حصصاً في شركات الطاقة والبناء والمال للجمهورية، وليست لديها مصلحة في تعقيد التعاون الثنائي مع بكين. في الوقت نفسه، تعتبر بكين تغيير السلطة في نايبيداو شأناً داخلياً لميانمار، وتدعو إلى مشاركة ممثلي هذا البلد في فعاليات «رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)».
بيد أن واشنطن فرضت عقوبات على القيادة العسكرية في ميانمار والشركات ذات الصلة، واتهمت القوات المسلحة للبلاد بارتكاب ما تزعم أنه «جرائم إبادة جماعية بحق السكان المسلمين من شعب الروهينغا»، وفتحت مكتباً تمثيلياً لـ«حكومة الوحدة الوطنية»، وهي الهيئة القيادية للمعارضة المسلحة. وتسعى الولايات المتحدة لمنع مشاركة الممثلين الرسميين لميانمار في منتديات «رابطة دول جنوب شرق آسيا»، ولتوسيع الدعم لما يسمى «القوى الديمقراطية».
من أحدث الأمثلة على السياسة الأميركية، الهادفة إلى تقويض شرعية حكومة ميانمار الحالية في نظر المجتمع الدولي، وقبل كل شيء، وفقاً للمصالح الجيوسياسية لواشنطن، كان هو الترويج لفرضية «الدولة الفاشلة». هكذا وصف مستشار وزارة الخارجية الأميركية ديريك تشول، ميانمار، خلال رحلته إلى إندونيسيا وتايلاند، والتي جَرَت، في الفترة من 20 إلى 24 مارس (آذار) من هذا العام. في الوقت نفسه، نشرت صحيفة «The Diplomat» مقالاً كان واضحاً أنه «فاشل»، وفقاً لاستنتاجات المؤلف، جاء فيه: «هل ينبغي إعلان ميانمار دولة فاشلة؟ هناك أدلة متزايدة على أن السلطات العسكرية فقدت السيطرة على البلاد». وخلص المؤلف إلى أنه من الضروري تعليق عضوية ميانمار في «رابطة دول جنوب شرق آسيا»، وتدخُّل التحالف الغربي في الشؤون الداخلية للبلد، الأمر الذي من شأنه، على وجه الخصوص، أن يهيئ الظروف لاعتقال المسؤولين في الجمهورية، بسبب جرائمهم الوهمية، وتغيير النظام هناك بالقوة من الخارج، على غرار ما جرى في عدد من دول الشرق الأوسط.
وتتضح الخطط الحالية للتدخل من قِبل الولايات المتحدة، من خلال «قانون بورما»، الذي اعتمدته، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، والذي ينص على التفاعل مع حكومة الوحدة الوطنية، فضلاً عن تقديم مساعدة يُفترض أنها «غير فتاكة» إلى «قوات الدفاع الشعبي» (التي أنشأتها المعارضة في مايو «أيار» 2021)، وإلى المجموعات العِرقية المسلحة (المجموعات العرقية المسلحة تختلف في المصالح والأعداد والقدرات العسكرية).
الرد الصيني جاء عبر تفعيل الاتصالات مع عدد من المجموعات العِرقية المسلحة. على سبيل المثال، عقد مبعوث الصين الخاص لشؤون آسيا، دنغ شي جيون، سلسلة من الاجتماعات مع بعض من قادة هذه المجموعات، خلال الشهرين الماضيين، تحدّث، في سياقها، بشكل سلبي عن حكومة الوحدة الوطنية، يمكن اعتباره توصية للجهات الفاعلة المحلية بعدم التفاعل مع المعارضة المسلحة ومع الولايات المتحدة. وتبع ذلك، في 15 - 16 مارس (آذار) من هذا العام، اجتماع لممثلي المجموعات العِرقية المسلحة السبع الرئيسية، حيث جرى، في نهايته، اعتماد بيان مشترك، أعرب عن الشكر والامتنان للصين؛ على جهودها لحل الأزمة في ميانمار، وعلى مساعدتها غير المشروطة لدول المنطقة في مكافحة جائحة «كوفيد-19»، كما احتوى البيان على الرغبة في مواصلة التعاون مع بكين.
مثَّل المشاركون في الفعالية المجموعات العِرقية المسلحة التالية:
1 - جيش ولاية وا الموحد (United Wa State Army /UWSA، ولاية شان، ويقدَّر العدد التقريبي للمقاتلين بحوالي 30 ألف مقاتل).
2- جيش أراكان (Arakan Army/AA، ولاية راخين، عدد المقاتلين يقدر بنحو 20 ألف مقاتل).
3- جيش استقلال كاشين (Kachin Independence Army/KIA، ولاية كاشين، عدد المقاتلين حوالي 12 ألف مقاتل).
4- جيش ولاية شان - الشمال (Shan State Army – North/SSA–N، ولاية شان، عدد المقاتلين حوالي 8 آلاف).
5- جيش التحرير الوطني تانغ (Ta’ang National Liberation Army/TNLA، ولاية شان، عدد المقاتلين أكثر من 5 آلاف تقريباً).
6- جيش التحالف الوطني الديمقراطي (National Democratic Alliance Army/NDAA، ولاية شان، عدد المقاتلين حوالي 4 آلاف).
7- جيش التحالف الوطني الديمقراطي لميانمار (Myanmar National Democratic Alliance Army/MNDAA، ولاية شان، يبلغ عدد المقاتلين أكثر من ألفي شخص تقريباً).
ومن بين المجموعات العِرقية المسلحة السبع، المذكورة أعلاه، تعمل خمس في ولايتي شان وكاشين المتاخمتين للصين، وواحدة في ولاية راخين على ساحل خليج البنغال. وهذه المجموعات لها علاقات مختلفة مع القيادة العسكرية لجمهورية اتحاد ميانمار، ومع المعارضة المدعومة من الدول الغربية. فعلى سبيل المثال، يَعتبر UWSA (جيش ولاية وا الموحد) الصراع في ميانمار شأناً داخلياً لشعب ميانمار، ويحترم AA (جيش أراكان) اتفاقية وقف إطلاق النار التي جرى التوصل إليها، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام، مع القوات المسلحة في ميانمار. في الوقت نفسه، لا يقوم KIA (جيش استقلال كاشين) فحسب بعمليات عسكرية مع مقاتلي «قوات الدفاع الشعبي»، بل يقوم أيضاً بتزويدهم بالأسلحة وتدريبهم على الأراضي الخاضعة لسيطرته، واستخدامهم لأغراضه الخاصة.
ويعتقد بعض المحللين، في كل من روسيا والشرق الأوسط، أن زيادة الدعم الأميركي للقوات المناهضة للحكومة في ميانمار، يمكن أن تؤدي إلى تغيير في شكل الصراع، الذي اتسم، حتى الآن، بتراجع حِدته. في الوقت نفسه، تواجه السياسة الأميركية، المتمثلة في المعارضة الشديدة لنايبيداو، مقاومة من كل من الصين وعدد من الدول الأخرى المهتمة باستقرار الوضع في ميانمار ولها علاقات تجارية واقتصادية وثيقة مع القيادة الحالية لهذا البلد، ومن بين هذه الدول روسيا، الصديقة لميانمار.
تجدر الإشارة إلى أن المناطق الإسلامية الروسية، ولا سيما تتارستان، تشارك أيضاً في تطوير التعاون الشامل بين موسكو ونايبيداو. وقد تجلّى ذلك، على سبيل المثال، من خلال زيارة رئيس جمهورية تتارستان، رستم مينيخانوف، لنايبيداو، في نهاية أبريل (نيسان) 2022.
8:37 دقيقه
TT
كيف تتنافس الولايات المتحدة والصين على ميانمار؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة