أندرو مكارثي
TT

أياً كانت المشكلة فمن الممكن حلها بالمشي

ربما لأننا نعتبر المشي أمراً مُسلماً به، غالباً ما يتجاهل كثير منا مواهبه الوافرة. وفي الحقيقة، أشك في أنني سأمشي كثيراً أو لمسافة بعيدة جداً إذا كانت الفائدة الوحيدة من ذلك بدنية مجردة، برغم الأدلة الوفيرة على قيمته في هذا الصدد. هناك شيء آخر في المشي يهمني أكثر. ومع قدوم الربيع، لا بد من الانتباه إليه.
اكتشفت قوة المشي المتمهل قبل أكثر من ربع قرن، عندما تمشيت لمسافة 500 ميل عبر إسبانيا على طريق كامينو دي سانتياغو، طريق الحج القديم. ولقد عثرت على كامينو بالصدفة، ثم مشيت عبر إسبانيا متعمداً. ومنذ ذلك الحين وأنا أمشي. ولست بمفردي في ذلك.
قال أبو الطب أبقراط إن «المشي هو أفضل دواء للإنسان». كما عرف الطبيب الحكيم أن المشي لم يكن مقصوداً للفوائد البدنية فحسب، إذ اقترح: «إذا كنت في مزاج سيئ، فاخرج في نزهة. وإذا استمر المزاج السيئ، فاخرج في نزهة أخرى». وكان يشير إلى ما سيشهد به كثير من الذين جاءوا بعده، أن المشي لا يُغذي الجسد فحسب، وإنما يُسكن العقل أيضاً فيما يزيل التوتر ويجعل مشاكلنا تنحسر في وجهة نظر أكثر سهولة.
واتفق معه فيلسوف اللاهوت الدنماركي سورين كيركيغارد عندما أقر قائلاً: «لا أعرف أي فكرة مرهقة لا تزول عن ذهن المرء بمجرد اللجوء إلى المشي». وكان الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز أكثر مباشرة إذ قال: «إذا لم أتمكن من المشي بعيداً وبسرعة، فأعتقد أنني سوف أنفجر وأهلك».
لكن المشي يفيد بأكثر من طرد الوساوس عن النفس. إذ كتب الشاعر الويلزي (والصعلوك أحياناً) دبليو. إتش. دايفيز يقول: «المشي يشفي الأرواح بطريقة تشعر بأنها حقيقية ومكتسبة. إذ تشعر كأنك مُمتَلَك. والمشي، مثل رفيق سخي، يرافقنا لأكثر من نصف الطريق».
هناك شهادات وفيرة تفيد بأن النزهة الجيدة تُحفز الإبداع. وأقسم الشاعر الإنجليزي ويليام ووردزورث على المشي، وكذلك فعلت الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف. وكذلك الشاعر والرسام الإنجليزي وليام بليك. وقد أكد لنا الروائي الألماني توماس مان أنه «تأتي الأفكار بكل وضوح أثناء المشي». ولاحظت الروائية الإنجليزية جوان رولينغ (صاحبة هاري بوتر) أنه «لا شيء يضاهي النزهة الليلية لاقتناص الأفكار»، في حين خلصت الروائية إليزابيث فون أرنيم - في مطلع القرن العشرين - إلى أن المشي «هو الطريقة المثلى للتحرك إذا أردت أن ترى حياة من الأشياء».
واسأل أي مُفكر مُتبصر عن الفوائد المترتبة على ما يسميه الصحافي الأميركي بيل برايسون «المنصة الهادئة» للمشي. إذ أقر الفيلسوف والعالم السويسري جان جاك روسو قائلاً: «هنالك شيء عن المشي يحرك وينشط أفكاري». حتى إن الفيلسوف الألماني بالغ التشاؤم فريدريك نيتشه كان عليه أن يتخلى عن تشاؤمه قليلاً في مقابل مشية متئدة يستمتع بها كلما سمحت له الظروف، ونراه يقول: «حقاً، تتبدى كل الأفكار العظيمة أثناء المشي».
ربما لا تسعفني تأملاتي المتواضعة للاقتراب من المرتفعات الشامخة التي أشار إليها نيتشه، إلا أن مشية طويلة جيدة، أو حتى ليست طويلة للغاية، تبدأ في اجتزاء مسافة ما بين أفكاري تسمح للوضوح والجلاء بالنهوض من خلال حذائي بطريقة لا تتسنى لأي وسيلة نقل أخرى. وقد عبّر الكاتب والعالم الإنجليزي باتريك لي فيرمور عن ذلك بإيجاز حين قال: «كل السرعات مُفسدة (في التأني السلامة)».
كنت غالباً ما أعتبر المشي مضيعة للوقت حتى ذهبت إلى إسبانيا في مهمة وحيدة هي عبور البلد سيراً على الأقدام. لكن طريق كامينو غيّر تلك النظرة. إذ كشف المشي الذي استمر شهراً بطريقة لم يفعلها أي شيء آخر عن نمط تفكيري المتكرر الشاحب، والدورات العاطفية المعتادة، وطبيعتي المذعورة. لقد أزال طريق كامينو مقاومتي لرؤية نفسي، وخطوة بعد خطوة أعاد بناء نفسيتي مجدداً. لقد غيّر موضع وجودي في العالم.
بدلاً من النظر إلى المشي كأسهل طريقة للوصول إلى مكان ما، تطورت رؤيتي لاعتباره ليس فقط وسيلة إلى غاية، وإنما كحدث في حد ذاته. وبما أنني مشيت على طريق كامينو للمرة الثانية في العام الماضي رفقة ابني البالغ من العمر 19 عاماً، أدركت أن المشي من بين أكثر الأشياء قيمة التي يمكنني فعلها.
أشارت الكاتبة الأميركية ربيكا سولنيت إلى أن المشي «هو الطريقة التي يقيس بها الجسم نفسه مقارنة بالأرض». ومن خلال هذا الاتصال الجسدي، يمنح المشي هبة متوجة لنا بإحضارنا عاطفياً، وحتى روحياً، إلى أنفسنا. وعندما التفت ابني نحوي في اليوم الأخير من سيرنا وقال: «أبي، هذا هو الشيء الوحيد الكامل تماماً الذي فعلته في حياتي»، عرفت أنه لم يصل فقط إلى «سانتياغو دي كومبوستيلا»، وإنما، على نحو ذي مغزى، إلى ذاته.
قال عالم الطبيعة الأميركي العظيم جون موير بتحمس: «لم أخرج إلا للتنزه... وبخروجي ذلك، وجدت، أنني كنت أتحرك داخل نفسي». هل سبق لأي شخص التنزه في الطبيعة لمدة ساعة ثم ندم على تحسن حالته النفسية؟ لعل هذا ما أشار إليه عالم الطبيعة والفيلسوف الأميركي هنري دافيد ثورو عندما كتب: «لقد تمشيت في الغابة ورجعت بقامة سامقة تتسامى على الأشجار».
لذا، فالسر يكمن هناك. إنه أسفل الأوراق المتناثرة على الدرب. إنه هناك على الرصيف. لقد حل الربيع. فلنربط أحذيتنا ونخرج!
* خدمة «نيويورك تايمز»