طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

يُنشر فورًا!

تلك هي الجملة السحرية التي ينتظرها كل كاتب صحافي أو مبدع، إنه النشر الفوري، سواء كان مكتوبًا أو مسموعًا أو مرئيًا، فما هي الجدوى أن تضع أفكارك في درج المكتب أو تجد سُلطة أعلى تُصادر إبداعك وتمنعه من التداول؟!
تبدو «يُنشر فورًا» في جانب منها وكأنها «افتح يا سمسم» في الحكاية الأسطورية «علي بابا والأربعين حرامي»، حيث كان عم علي يدخل المغارة خلسة من وراء ظهر العصابة ليأخذ ما خف وزنه وغلا ثمنه من ياقوت ومرجان وزمرد، ورغم أنه من الناحية العملية يسرق ولا عذر أنه يسرق مما هو مسروق أصلاً، فهو في النهاية لص، ولكننا تسامحنا معه لأنه قنوع ويُسعد المقربين إليه بهذه الأموال.
لا شعوريًا دائمًا ما ننتظر النتائج الإيجابية ونغض الطرف عن الوسيلة، تذكرت عبارة «ينشر فورًا» لأنها هي التي منحت كاتبنا الكبير الراحل إحسان عبد القدوس الفرصة لكي ينشر روايته «علبة من الصفيح الصدئ»، والتي كانت تنتقد ثورة 23 يوليو (تموز) بأسلوب غير مباشر. ذكر هذه الحكاية مؤخرًا كاتب السيناريو محفوظ عبد الرحمن في لقاء معه بنقابة الصحافيين المصريين، حيث قال إن مجلة «المصور» ترددت في نشر الرواية مطلع الستينات، فلجأ إحسان إلى الرئيس جمال عبد الناصر وكان بينهما صداقة بدأت منذ عام 48 أثناء حرب فلسطين، وبالفعل قرأها جمال ووافق على النشر فورًا، وعندما أراد محفوظ تقديمها في مسلسل تلفزيوني رفض المسؤول مجددًا بحجة أنها معادية للثورة، فاستعان محفوظ بتأشيرة جمال عبد الناصر فتراجع المسؤول 180 درجة.
كثيرون بعد أن تتردد أمامهم هذه القصة وغيرها يقولون إنها دلالة لا تحتمل الشك على أن الرئيس مؤمن بالحرية، رغم أنكم لو تأملتم الموقف وقرأتم التفاصيل بهدوء لاكتشفتم أن العكس هو الصحيح، لو كانت المنظومة كلها ديمقراطية لم يكن وقتها سيلجأ إحسان إلى رئيس الجمهورية، ثم هل كل الكتاب أو المبدعين لديهم علاقة مباشرة بالرئيس، ويستطيعون الوصول إليه في كل وقت، الوجه الآخر للصورة هو أن الجميع ممن هم دون الرئيس يخشون من غضبه وليس لديهم يقين أنه بالفعل ديمقراطي.
كثيرة هي الحكايات المماثلة التي دأبنا على اعتبارها مع الحرية وتحسب لصالح الحاكم رغم أنها عليه، مثل الواقعة الشهيرة لفيلم «شيء من الخوف» الذي أخرجه حسين كمال عام 69، ولعب بطولته محمود مرسي وشادية، والذي أثار الخوف بسبب تلك العبارة «زواج عتريس من فؤادة باطل»، حيث قالوا إن ثروت أباظة كاتب الرواية اعتبر أن عتريس هو ناصر، وفؤادة مصر، وأن عبد الناصر اغتصب الحكم، لم يجرؤ حتى نائب رئيس الجمهورية في تلك السنوات أنور السادات على التصريح بالفيلم والذي وافق هو عبد الناصر، حيث قال لهم ساخرًا «هل أنا عتريس حتى أمنع الفيلم؟».
هل أزيدكم من الشعر بيتًا؟، مثلاً فيلم «زواج بقرار جمهوري» إخراج خالد يوسف، وهو للتذكرة كان يُقدم الرئيس الأسبق حسني مبارك في مكانة الرجل الشعبي المتواضع الذي يذهب إلى فرح فوق السطوح تلبية لرغبة واحد من أفراد الشعب الذي أدى دوره هاني رمزي، ورغم ذلك لم يجرؤ الرقيب ولا حتى الوزير على عرضه، لولا أن جمال مبارك قبل نحو 15 عامًا شاهده ووجد أن عرضه يصب لصالح الرئيس وقال لهم يُعرض فورًا فأصدر الرقيب بعدها قرارًا بالموافقة الفورية.
وكم من الأكاذيب تُلصق عنوة بالمجني عليها «ينشر فورًا».