جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

هل تشهد بريطانيا بدء مرحلة سوناكية؟

الصحافيون الذين أتيحت لهم فرصة متابعة المؤتمر الصحافي في قلعة ويندسور الملكية، يوم الاثنين الماضي، بين رئيس الحكومة البريطانية السيد ريشي سوناك ورئيسة المفوضية الأوروبية السيدة أورسولا فون دير لاين، كانوا مندهشين لما ساد في المؤتمر من أجواء ارتياح ولغة سياسية ودية وهادئة افتقدوها منذ سبعة أعوام. مما خلق انطباعاً لديهم بأن رئيس الحكومة السيد سوناك قد أفلح أخيراً، وبشكل مفاجئ، في فتح ثغرة في حصار مضروب حول شمال آيرلندا، من قبل الاتحاد الأوروبي، وإعادة ترميم ما تصدع من علاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
النجاح الذي حققه السيد سوناك عقد ألسنة خصومه في الحزب، من أعضاء التيار اليميني المعادي لأوروبا، ممثلاً في «مجموعة البحث الأوروبي - European Research Group ERG» وأصابهم بشلل مؤقت. بدا ذلك واضحاً، في نفس مساء ذلك اليوم، تحت قبة البرلمان، في جلسة منقولة على الهواء، عرض خلالها السيد سوناك أهم تفاصيل بنود الاتفاق الموقع مع بروكسل على النواب. في تلك الجلسة تغيب عمداً عن الحضور رئيس الحكومة الأسبق السيد بوريس جونسون، الذي وقع على اتفاق شمال آيرلندا مع الاتحاد الأوروبي، وتسبب في خلق الأزمة. كما غابت رئيسة الحكومة السابقة السيدة ليز تراس. وكانت ردود الأفعال إيجابية من جميع الأطراف، بما في ذلك أحزاب المعارضة. وتجلت أكثر في ردود أفعال وسائل الإعلام في اليوم التالي، وفي تعليقات المحللين السياسيين.
الاتفاق الجديد الموقع بين لندن وبروكسل أطلق عليه اسم «إطار ويندسور - Windsor Framework»، بدلاً من الاتفاق السابق المسمى «بروتوكول شمال آيرلندا»، وأنعش الآمال بإمكانية عودة الأمور في بلفاست إلى مجاريها، في حالة موافقة الحزب الديمقراطي الاتحادي (DUP) على بنوده. ومن المحتمل جداً تحقق ذلك، خصوصاً أن رد فعل زعيم الحزب جيفري دونالدسون المبدئي على الاتفاق كان على نحو ما إيجابياً، باعترافه بأن الاتفاق قد نجح في التخلص من الكثير من المطبات والعراقيل، التي دعت حزبه إلى الانسحاب من المشاركة في الحكومة المحلية في بلفاست.
ما فشل فيه رئيسا حكومتين سابقان له، نجح السيد ريشي سوناك في تحقيقه بهدوء، بضربة محكمة تمثلت في قرار حاسم اتخذه بسحبه لمشروع قانون باسم «مشروع قانون شمال آيرلندا»، قدمته حكومة السيد جونسون للبرلمان، وفي حالة إجازته، يتيح لوزراء الحكومة البريطانية، تجاوز بنود الاتفاق الموقع من بروكسل أحادياً. المشروع كان على وشك عبور العقبة الأخيرة في مجلس اللوردات، وفي طريقه إلى أن يصبح قانوناً. وكان من المتوقع أن بروكسل ستلجأ إلى مقاضاته دولياً، كونه يعد انتهاكاً للاتفاق الموقع بينهما.
تلك الخطوة الجريئة، استقبلت بترحاب من بروكسل، واعتبرتها بادرة حسن نية من السيد سوناك. وفتحت الباب أمام المفاوضين من الجانبين للعودة إلى التفاوض بروح جديدة، هدفها الوصول إلى تسوية تضمن رفع أغلب القيود المفروضة في البروتوكول على تنقل السلع والبضائع بين شمال آيرلندا والمملكة المتحدة، وإطفاء فتيل التوتر بين لندن وبروكسل.
وصف السياسة بأنها فن الممكن، لم يأتِ اعتباطاً. والممكن المقصود في الوصف نابع من القدرة، في أحلك المشكلات، على رؤية الإيجابي، أي ما يمكن إنجازه من توافق، بغرض تحقيق مصالح مشتركة، تبدو في فترات التوتر غير واضحة. وفي هذا السياق، يمكن قراءة ما حدث، والقول إن نزوع بروكسل إلى تقديم تنازلات لم يكن حباً في السيد سوناك، بقدر ما كان لخدمة مصالحها أولاً، وكرهاً في رئيسي الحكومتين السابقين ثانياً. في مقدمة تلك المصالح، ما فرضته الحرب الدائرة في أوكرانيا من أوضاع أمنية واقتصادية خطيرة على أوروبا، والعالم عموماً، هذا من جهة. من جهة أخرى، من المهم لبروكسل غلق المنافذ أمام أي عودة محتملة لرئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون إلى 10 داوننغ ستريت أو السيدة ليز تراس، وتعزيز وضع رئيس الحكومة الحالي ريشي سوناك، بهدف تحجيم نفوذ الجناح اليميني في حزب المحافظين من المعادين لبروكسل، ونزع ريشه، ما يتيح خلق أجواء لا يشوبها توتر، تسمح بإعادة ترميم ما نجح المعادون لبروكسل في هدمه، خلال السنوات الماضية. وفي المقابل، تمكن السيد سوناك من تعزيز وتقوية موقفه في 10 داوننغ ستريت، خاصة لدى المشككين في قدراته، وأثبت أنه رجل دولة بامتياز، ويجيد قراءة أدق التفاصيل والمناورة، وقادر في الوقت نفسه، على حل أعقد الإشكالات والمقامرة باتخاذ قرارات حاسمة. وهذا النجاح غير المتوقع، يعني إمكانية أن يقود السيد سوناك المحافظين في الانتخابات المقبلة. وفي حالة نجاحه - وهو أمر مشكوك فيه حالياً كما تؤكد استقراءات الرأي العام - سيقود بريطانيا إلى مرحلة جديدة في تاريخها المعاصر، من المحتمل أن تحمل اسم المرحلة السوناكية.