خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

مَن أحق الناس بحسن رعاية الدولة؟

لي صديق يعمل في نجارة الأخشاب، بدأ حياته بورشة صغيرة في شبرا، تطورت إلى مصنع متوسط. لا يمكن أن تتخيل أن هذا الشخص البسيط العصامي، ولا أن مصنعه البسيط الذي يديره بنفسه ويشغل فيه شباباً في مقتبل حياتهم، هو الذي يصنع هذا الأثاث الجميل الذي يحمل بعد ذلك اسم أشهر محلات الأثاث في مصر.
أردت أن أشتري كرسياً متمدداً هزازاً، ليزي بوي، فلم أجد في محال الأثاث الشهيرة واحداً يجمع بين الموديل الذي أريد واللون الذي أريد. فلجأت إلى صديقي هذا بزيارة إلى معرضه، وعرضت عليه طلبي. وكانت فرصة - قبل ثلاث سنوات - لكي أسأله عن الأحوال.
لخصها لي بأنه اضطر إلى تخفيض العمالة في مصنعه من 35 إلى 8 أفراد فقط؛ أي إن 77 في المائة من الشغيلة عنده فقدوا أشغالهم. ولن أتطرق هنا إلى تفسيره لما حدث، بل سأحاول أن أحوله إلى نموذج أعم.
عادة يعرض موضوع الاستغناء عن العمالة في الأعمال الدرامية والعناوين الصحافية على أنه جشع من المستثمر، أو استعباد للموظفين ورغبة في تحميل الشغل إلى عدد أقل، لكن أي شخص أدار مشروعاً يعلم أن حلم صاحب البزنس بسيط: أن تزيد أرباحه ويتوسع، وبالتالي يزيد عدد موظفيه. أما العكس فيفعله اضطراراً؛ إما لأن المنتج الذي يتعامل فيه لم يعد مطلوباً من الأساس لظهور منتج آخر أحدث، أو لأن المستهلك لم يعد يملك القوة الشرائية اللازمة، وبالتالي أخفض المنتج من سلسلة أولوياته.
السبب الثالث، الذي يعاني منه عادة أصحاب البزنس الصغير والمتوسط، أن شركة أكبر استطاعت أن تنتج كميات أضخم من نفس المنتج، ما يمكنها من طرحه بثمن أرخص، وطرد صغار المستثمرين من السوق.
كل هذا بعض بسيط من المخاطر الجمة التي يواجهها صغار المستثمرين، وهم عماد الاقتصاد، وقاطرته، في أي دولة. ما على المحك هنا أكبر بكثير مما توحي الكلمات. في تفاصيلها ضياع لرأس المال، أو الغرق في ديون بنكية أو شخصية وعجز عن السداد. لي صديق آخر انتحر وهو في الأربعينات من عمره تاركاً ثلاثة أبناء، ودون أي سابقة من مرض نفسي؛ فقط لأن حاله تبدل مع تبدل قرارات الاستيراد، ففقد ثروته، ثم عجز عن سداد ديونه.
المستثمرون يعيشون صراعاً لا يدري عنه الموظفون الحكوميون شيئاً. الجانب الذي يعرض على الناس منه هو المكسب والثراء، أما الخسارات والكبوات والعيش القلق والتأثر المضاعف بوضع الاقتصاد، فلا تلتفت إليها الدراما والصحف، ولا حتى الأدب عندنا.
عبارة «جشع التجار» متلازمة متكررة في الإعلام، في حين أن أمنية التاجر دائماً أن تكون أسعار منتجاته منخفضة، وفي متناول عدد أكبر من الزبائن، فيزيد الإقبال عليها. ارتفاع الأسعار ليس أبداً في مصلحة التجار، يضطرون في أحيان كثيرة إلى البيع بالخسارة حتى لا تركد دورة الأموال لديهم.
لو جمعنا شذرات مما فضفضت به أعلاه، نستطيع أن نوجز مشكلة «إدارة الاقتصاد» في أي دول نامية في نقاط: الأولى فهم عبارة «إدارة الاقتصاد»؛ إذ الإدارة معناها الإحاطة بجميع عناصر المنظومة والوعي بها، وتقييمها تقييماً رقمياً بقدر الإمكان، بحيث نصل إلى محصلة قوى إيجابية. تماماً كما يفعل الفيزيائيون وهم يحسبون القوى المختلفة المؤثرة على حركة جسم. هذا الفهم التفصيلي الفيزيائي هو ما ينقل إدارة الاقتصاد من حيز الاقتصاد الريعي الحسابي إلى حيز الاقتصاد الحديث.
ثانيها، النقاش حول الاقتصاد؛ إذ الجدل يلفت الانتباه إلى نقاط خافية.
المشكلة لدينا سيطرة نوعين من الخطاب، أعلاهما صوتاً عالي الدسم في مفرداته الأخلاقية الشعاراتية، منزوع الدسم في الانضباط الرقمي، لا يستطيع الصمود أمام التحدي الرياضي. وأخفتهما صوتاً، وإن لا يقل خطورة، فالخطاب القهواتي حين يخرج من حدود الدردشة الشخصية ليجد مكاناً في قنوات مؤثرة. سمعت شيخاً على «إذاعة القرآن الكريم» يتحدث عن الاقتصاد، ويقول إن الحل أن نقتر في الإنفاق إلى أقصى حد؛ فيزيد ذلك من فائض ثروتنا. وهذا كلام يصح على أزمة إنتاجية اضطرارية، مثل حرب كبرى، لكنه في أوقات السلم يدق المسمار الأخير في نعش الاقتصاد، ويتسبب في إغلاق قطاعات أخرى من الإنتاج، ويدخلنا في دورة من الركود التضخمي تتزايد معها الأسعار بسبب نقص المعروض.
يتفرع من هذا عبارات أخرى نسمعها مثل «السلع الاستفزازية»، كأن الإنفاق على سلع الرفاهية إثم يخصم من بركة الاقتصاد مثلاً، وليس مجرد إنفاق ينشط دورة الأموال ويبقي على قطاعات مفتوحة بمشتغليها.
وثالثها، إدراك الدولة لخطورة الدخول منافساً لأصحاب الأعمال. ربما يمنح هذا فرصة لوزراء ومسؤولين للظهور في صور وهم يفتتحون مشاريع جديدة، فيظن الناس أن هذا جيد. نعم قد يكون جيداً، ولكن لا بد من التفكير في الغائب عن الصورة، وهو المشاريع الفردية التي أغلقت بسبب عدم قدرتها على التنافس أمام القدرات التمييزية للدولة. ومعها عدد الشغيلة الذين فقدوا أعمالهم في تلك القطاعات الخاصة. تبدو الأرقام بسيطة حين تنظر إليها في دائرة محدودة من معارفك، لكنها ضخمة حين تفكر فيها على مستوى المجتمع.
بمجرد أن تبدأ دورة خروج المشاريع المتوسطة والصغيرة من السوق لن تتوقف. بطالة الشغيلة معناها انخفاض مؤشر الاستهلاك؛ أي انخفاض الطلب على شراء بضائع جديدة، من حذاء إلى سيارة، وبالتالي تمدد الخسارة لقطاع بعد قطاع.
المستثمر أولى الناس برعاية الدولة. لا أقصد بالرعاية هنا الدعم، أقصد بها تهيئة الجو الاستثماري الجيد، بداية من وضوح القوانين، إلى سهولة الإجراءات، وصولاً إلى ضمان التنافسية.
حين يحدث هذا فالخسارة والربح جزء من المخاطرة العادلة. سينتج عنها توسع الاقتصاد تراكمياً في الأفق المفتوح، لا إصابته بالتأكل الذاتي بين سقف وجدران مغلقة. المستثمرون أهم عناصر رخاء مجتمع.