سام منسى
إعلامي لبناني قدم لعدة سنوات برنامجا حواريا سياسيا في قناة الحرة. المدير العام لإذاعة "صوت لبنان" سابقا والمدير التنفيذي السابق لـ"بيت المستقبل"، وكاتب عمود في "الشرق الأوسط". مهتم بجمع ومعالجة البيانات المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط، خصوصاً الجوانب السياسية والاجتماعية للتنمية العربية.
TT

الذكرى الـ18 للحرب اللبنانية بنسختها المحدّثة 2005

يصادف يوم الثلاثاء، 14 فبراير (شباط)، الذكرى الـ18 لاندلاع الحرب اللبنانية بنسختها الثانية، إثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري سنة 2005. وذلك باعتبار أن الحرب الأولى انتهت سنة 1990، بعد دخول الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع، وهرب العماد ميشال عون، رئيس الحكومة يومها، إلى السفارة الفرنسية.
لن ندخل بسجال ما إذا كانت الحرب الأولى 1975 – 1990 هي حرب أهلية أم حرب الآخرين على أرض لبنان، كما وصّفها البعض. السجال الفعلي يدور بشأن انتهائها فعلياً سنة 1990 أم أنها استمرت كامنة حتى زلزال تفجير موكب الحريري لتأخذ شكلاً ومنحى مختلفين عن سابقتها، وتصبح نسخة محدّثة على وقع المتغيرات اللبنانية والإقليمية والدولية. نبدأ بتداعيات الغزو الأميركي للعراق عام 2003 من «انفلاش» الجماعات الإسلامية المتطرفة وشبه تسليم البلاد لإيران، مروراً بالربيع العربي ومحطته الأخيرة المتمثلة بالثورة ضد نظام بشار الأسد في سوريا عام 2011 وما نتج عنها من دخول روسي متجدد إلى المنطقة، وصولاً إلى النزاع الإيراني - الخليجي، إثر توغل مشروع ولاية الفقيه المذهبي التوسعي في دول المشرق، ونقطة ارتكازه لبنان، وليس التخلص من قامة سنية لبنانية وعربية مثل رفيق الحريري إلا إشارة لبلورة الأهداف النهائية لهذا المشروع. وتكلل كل ذلك بتراجع أميركي من المنطقة، وخواء وضعف أوروبي، وتخلخل العلاقات الأميركية مع حلفائها العرب، وتغيّر جذري في مسار النزاع العربي الإسرائيلي مع اتفاقيات أبراهام والتطبيع.
الحرب بنسختها الجديدة لا تزال مستعرّة دون أفق لحل أو تسويات ممكنة. وقد يسأل البعض بأي حق تُعتبر هذه المرحلة استمراراً للحرب اللبنانية التي اندلعت سنة 1975؟ السؤال مشروع كون حرب 1975 شهدت معارك عسكرية وخطوط تماس وعمليات خطف واحتجاز رهائن أجانب وتصفيات بالجملة وتفجير سيارات مفخخة واغتيالات كثيرة طالت رئيسين للجمهورية ورئيساً للحكومة وسياسيين ورجال دين، على رأسهم مفتي الجمهورية، واجتياحين إسرائيليين في 1978 و1982، بلغ الثاني العاصمة بيروت، ومبادرات عربية ودولية، وتدخلاً عسكرياً عربياً ودولياً، انتهى بتسوية الطائف ودخول قوات الردع العربية، التي اختصرت لاحقاً بالجيش السوري.
النسخة الجديدة من الحرب اللبنانية أكثر تعقيداً وصعوبة من الأولى نتيجة لعوامل داخلية كثيرة، وخارجية، نتركها لمساحة أخرى. أول هذه العوامل هو حضور المنظمات الفلسطينية المسلحة حتى سنة 1982، ونظام الأسد بجيشه ومخابراته لأكثر من 29 سنة (1976 - 2005). اليوم الوضع مختلف تماماً. فالسطوة الإيرانية لا تحتاج إلى براهين، لكن تصعب مقاربتها ومعالجتها لتخفّيها بثياب لبنانية صرفة. إبان الوجودين الفلسطيني والسوري، كانت المطالبة بخروج الأجنبي سهلة ومشروعة وطبيعية، وحظيت أخيراً بدعم دولي مباشر، ولا سيما أميركي - فرنسي، أدى إلى خروج الجيش السوري من لبنان وانتقال دوره إلى الحليف الإيراني مباشرة. المطالبة بخروج اللاعب الأجنبي غدا أمراً صعباً. ولعل أقرب حدث يؤكد هذا الواقع هو اجتماع باريس الأسبوع الفائت، الذي لم يتوصل إلى بيان يجمع عليه المشاركون الخمسة، فأحالوا الأمر إلى اللبنانيين، بدعوتهم لانتخاب رئيس، والمباشرة بالإصلاحات، دون أي إشارة إلى «حزب الله»، ولا يستطيعون إنكار أنه مكون لبناني على الرغم من تبعيته الكلية لإيران.
العامل الثاني هو الطابع السياسي أكثر منه الطائفي للحرب الدائرة حالياً. فعلى الرغم من سيطرة «حزب الله» الذي يملك قدرات عسكرية ومالية واستخبارية مكّنته من نفوذ منفرد لقوة سياسية طائفية، غير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث، فقد عرف أهمية إعطاء الطوائف الأخرى نوعاً من الأمن والأمان، وترك بيروت مساحة متعددة تتمتع بالحد الأدنى من بريقها السابق، علماً بأنها تعرضت لتغييرات ثقافية واجتماعية عميقة نتيجة الدور الإيراني وتأثيره في البيئة الشيعية عبر الحزب، وما استتبع ذلك من تأثيرات طالت كل أطياف المجتمع اللبناني. دغدغ الحزب شريحة من المسيحيين بمشروع متوهم، هو حلف الأقليات، بحجة حمايتهم والحفاظ على حقوقهم.
العامل الثالث هو تعطل وشلل مؤسسات الدولة الدستورية بشكل غير مسبوق، وصل حداً بات يصح معه وصف البلاد بالدولة الفاشلة. إبان حرب 1975، بقيت مؤسسات الدولة تعمل بقدر ما كانت الأحوال الأمنية تسمح، ولم تعطل المناكفات السياسية، على حدتها، انتخابات الرئاسة، ولا تشكيل الحكومات، وبقيت للقضاء هيبته وللبعثات الأجنبية في العالم مكانتها.
العامل الرابع هو حصرية السلاح غير الشرعي بيد ميليشيا واحدة، ما همّش أدوار الأطراف الأخرى أو على الأقل حدّ من فاعليتها، وبات حاملوه أقوى من معظم جيوش المنطقة النظامية، وأرخى التهديد الكامن دوماً، والمعلن أحياناً باستعماله في الداخل، بظلاله على موازين القوة الداخلية، ليجعل من حامليه القابضين على القرار السياسي. هذا العامل أيضاً هو من أسباب عدم تحول الصراع السياسي الحاد إلى نزاع عسكري أو قتال بين الميليشيات، على غرار حرب 1975، لكن إذا كانت حرب الميليشيات العسكرية توقفت، فقد استمرت الحرب المافياوية عبر الاغتيالات التي طالت الشخصيات المعارضة.
العامل الخامس يتمثل بما حملته السنوات الـ18 من تغيير في الاقتصاد والاجتماع وانتقال للثروة، إلى ما لحق بالطبقة الوسطى، التي بات معظمها يعاني تراجعاً على أكثر من صعيد، هدد دورها وتأثيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. بلغ هذا التغيير ذروته مع انهيار العملة الوطنية، وتهاوي القطاع المصرفي برمته، وضياع الودائع بين عامي 2019 و2003، إلى جانب تهافت القطاعات الصحية والتربوية والسياحية والخدماتية بنسب مختلفة، وإصابتها كلها في صميم أدوارها وميزاتها.
العامل السادس هو وجود أكثر من مليون نازح سوري، يصعب تصوّر عودتهم إلى سوريا في المنظور القريب، حتى المتوسط، لاعتبارات كثيرة، أبرزها مستوى العنف غير المسبوق، الذي وصل أحياناً إلى حدّ التطهير العرقي، والدمار الهائل الذي أصاب المدن والقرى والبنى التحتية. بالتوازي، يجدر عدم إغفال العامل الديمغرافي وهجرة اللبنانيين، ولا سيما الشباب والفئات المتعلمة من مهنيين وغيرهم وشرائح اجتماعية ميسورة من الطوائف كافة، مع أرجحية مسيحية.
أهدر اللبنانيون فرصة إنهاء حرب 1975 عندما استبدلوا الوجود الفلسطيني المسلح بجيش النظام السوري الذي تحكّم بلبنان بشكل مطلق حتى العام 2005. وأهدروا أيضاً فرصة إنهائها بتطبيق الطائف، عندما رفض العماد عون تسليم الحكم إلى الرئيس المنتخب رينيه معوض، وشنّ حروبه الهوجاء. ومع الاهتمام الأميركي - الفرنسي غير المسبوق من جهة، وخروج الجيش السوري من جهة ثانية عام 2005، أهدروا للمرة الثالثة فرصة تاريخية لإنهاء الأزمة اللبنانية، كانت كفيلة بتحجيم «حزب الله» عبر تطبيق القرار 1559، فكانت خطيئة الحلف الرباعي، وسوء تقدير الأطراف اللبنانية كافة، لقوة «حزب الله» والمراهنة على لبنانيته، فانقلب على الجميع مستنسخاً دور النظام السوري، فاستمرت الحرب، ولم تنتهِ.
في المحصلة، حرب 2005 المفتوحة حملت معظم مساوئ حرب 1975، وأضافت للعنف السياسي والعسكري عنفاً من نوع آخر، هو العنف الاقتصادي والاجتماعي والمالي والتربوي والصحي. ما شهدته المرحلة الأولى من الحرب تكرر معظمه في المرحلة الثانية، إنما بأساليب مختلفة، هدفت بشكل أساسي إلى القتل المتعمد لمقومات الدولة والكيان. ومع كل المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية، تبقى التسويات المحلية والدولية الصالحة لزمن غابر غير صالحة لهذا الزمن، ولن تؤثر على جوهر الأزمة اللبنانية.