د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

مزاد العملة

يواصل سعر صرف الدولار ارتفاعه أمام الدينار العراقي، في ظل عجز السلطات النقدية والحكومية عن إيقاف ذلك، حيث تجاوزت أسعار الصرف، حاجز الـ175 ديناراً للدولار الواحد؛ ما أدى إلى زيادة الاضطراب في الأسواق المحلية وكسادها؛ نتيجة ارتفاع أسعار السلع والخدمات لمستويات غير مسبوقة، إذ يشتكي معظم الباعة وتجار الجملة منذ أسابيع من تراجع حركة البيع والشراء في الأسواق؛ نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار معظم السلع والمواد الغذائية الأساسية، بعدما ارتفعت أسعار بعض السلع بمقدار النصف تقريباً، وبات من الواضح أن الارتفاع المتواصل في أسعار صرف الدولار مرتبط بالإجراءات المتشددة التي اتخذها البنك الفيدرالي الأميركي حيال عمليات تحويل الأموال إلى البنك المركزي العراقي؛ لمنع عمليات الفساد والتلاعب وتهريب العملة إلى دول الجوار من خلال نافذة مزاد العملة في البنك المركزي.
إن مفهوم مزاد العملة، عبارة عن سوق للعملة الأجنبية يلتقي فيها الطلب على هذه العملة بالعرض، ومن ثم يتكون سعر الصرف، وقد ظل سعر صرف الدينار العراقي مستقراً لفترة طويلة بسبب استخدام الحجم المتزايد من العملة الأجنبية في توفير المرونة والاطمئنان في مقابل الطلب، إذ إن عملية تحديد سعر الصرف يجب أن تجري بسلاسة لأن عرقلتها ستؤثر على الطلب على الدولار والطلب الذي ستتم عرقلته سيشبع من السوق، وسيكون هذا الإشباع بسعر صرف أعلى، وبالتالي يحصل الارتباك في السوق ويكون هذا مقدمة لتعدد أسعار الصرف، الأمر الذي يعرقل اتخاذ القرارات الاقتصادية وتنفيذها، وعلى الرغم من أن المزاد يستخدم في غالبيته من قبل تجار الاستيراد عن طريق مصارفهم التجارية، لكن لا بد من التأكيد على أنه سياسة نقدية، لأنه يسحب الدينار العراقي من السوق، الأمر الذي يقلل من ضغط السيولة النقدية وتأثيرها على التضخم، علما أنه يعد مزاد العملة الوحيد في الدول العربية والشرق الأوسط.
الإنجاز الأساسي للبنك المركزي يتمثل في تحقيق الاستقرار في الأسعار عن طريق سحب الدينار من خلال بيع الدولار، وهذا هو الجزء الخاص بالسياسة النقدية، أما الجزء الخاص بالسياسة التجارية (خارج مجال البنك المركزي) فيتمثل في استخدام الدولار في الاستيراد والعرض السلعي، الأمر الذي حيّد التضخم بشكل كبير، ولكن إذا ما تركنا الجانب النقدي جانبا وتصورنا أن عمليات استيرادات القطاع الخاص هي قضية تجارية بحتة، وتمويل هذه الاستيرادات يأتي من العملة الأجنبية المتاحة للحكومة وليس من احتياطيات البنك المركزي، تبقى للبنك المركزي مصلحة أساسية في تخفيض التضخم والذي من الممكن أن تلعب السياسة التجارية دوراً مهماً فيه.
وفي بعض الحالات لا تتم السيطرة على سوق العملة، فيحصل تفاوت بين السعر الرسمي وسعر السوق، ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة من جانب العرض والطلب، فقد تحدث بعض الأزمات التي تولد زيادة في الطلب على الدولار باعتباره سلعة أمان وضمان، كما من الممكن أن يزود البنك المركزي المصارف بالدولار، ولكن ليس من الممكن إيصال هذا الدولار إلى المستفيد النهائي من قبل المصارف بالمرونة المطلوبة، كل هذه الأمور تعرقل انسيابية العملة الأجنبية والحصول عليها فيرتفع سعر السوق، وهذه الظواهر تعيق انسيابية السوق.
إذا كان الاقتصاد الحقيقي يعاني من إنتاجية متدنية، فإن القطاع الخاص سيستورد تقريبا كل شيء، وسعر صرف الدينار سينخفض، ولكن حجم الاحتياطي الكبير يستطيع تمويل الاستيراد وسد فجوة ميزان المدفوعات والحفاظ على الدينار من الانخفاض، وهذا ما يحدث في مزاد العملة الأجنبية، إذ من الأفضل أن نحافظ على الدينار من خلال الإنتاج وخلق قابليات تصديرية غير نفطية، وهذا هو واجب القطاعات الإنتاجية، يجب أن تتطور قابلية التصدير غير النفطي ولو بشكل تدريجي حتى يقل الاعتماد على عوائد النفط ومزاد العملة الأجنبية المعتمد على النفط، لكن جاءت النتائج عكس ذلك تماما. مزاد العملة في ظل الضعف الحكومي وتفشي الفساد لا ينتج عنه سوى تدمير الاقتصاد العراقي.
المشكلة التي يعانيها الاقتصاد العراقي الآن هي مشكلة سياسات وليست مشكلة موارد، فالعراق يعاني الآن من عدم توفر الاستقرار السياسي، الأمر الذي يعرقل التنمية واتخاذ القرارات بشأنها، كما أن عدم توفر الاستقرار الاقتصادي يكون نتيجة لعدم استقرار الصرف،
إن ذلك يؤثر على الثقة بالدينار والتي بدأت تتضاءل، الأمر الذي يفسر الرغبة الكبيرة في اقتناء الدولار الذي أصبح بمثابة سلعة أمان، كما أن عدم استقرار الظروف الداخلية والإقليمية يشجع بدوره على زيادة الطلب على الدولار، لذا من الضروري إيقاف مزاد العملة الذي أضعف ودمر الاقتصاد العراقي، والحد من استثمار وتهريب مبيعات مزاد الدولار من البنك المركزي العراقي.
وفي الختام، لا مزاد العملة ينفع، ولا البيع النقدي للدولار، في ظل تحول الفساد إلى منظومة على مدى السنين، والمطلوب إجراء إصلاحات اقتصادية ومالية، خصوصا سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي، ومنها الآليات الواجب اتباعها في حوالات الدولار من العراق إلى الخارج (التحويلات الخارجية غير رسمية).