سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الحوت الجوي يتقاعد

الثلاثاء الماضي سلمت شركة «بوينغ» آخر طائرة جامبو 747 تخرج من مصانعها. وداعاً للطائرة العملاقة التي غيّرت عالم السفر الجوي منذ تحليقها العام 1969. لقد أدت أدواراً كثيرة، منها أن تنقل 500 مسافر كل رحلة في جميع البلدان، ومنها شحن أطنان السلع، ومنها حمل عربات الصواريخ الهائلة في وكالة الـ«ناسا»، ومنها أن تحمل اسم طائرة الرئاسة الرقم واحدا، عندما يسافر صاحب البيت الأبيض في رحلاته الرسمية. قرأت لطيار سعودي أن الجامبو هي الأسهل قيادة بين الطائرات، ورغم حجمها الهائل، كأنك تقود سيارة عادية... لكن المؤسف أن هذه العملاقة تستهلك الكثير من الوقود بسبب محركاتها الأربعة. ولذلك انصرفت شركة بوينغ ومنافستها إيرباص خلال العقدين الأخيرين إلى تطوير الطائرات ذات المحركين. وهكذا حملت عملاقة الثلاثاء الماضي الرقم 1.574 خاتمةً عصراً جميلاً من عصور بساط الريح الذي ينقل عشرات الملايين من البشر كل عام، أما الطائرة الأخيرة فسوف تذهب إلى شركة الشحن الجوي (أطلس إير).
عمل نحو 50.000 موظف طوال 16 شهراً لإخراج الجامبو الأولى في مصانع بوينغ. وذهل العالم وهو يرى أمامه طائرة طولها 70 متراً، ويعلو ذنبها 6 طوابق عن الأرض، وأطلق عليها علماء الطيران آنذاك اسم «الحوت»، فيما سمّتها الصحافة «ملكة الأجواء».
امتلكت أول جامبو شركة «بان إم» الأميركية، التي سوف تغلق أبوابها بعد حادثة لوكربي الشهيرة. ثم أنتجت بوينغ نموذجاً متطوراً 747–400 أواخر الثمانينات قادرا على القيام برحلة تستمر 20 ساعة. مما يعني توفيراً شديداً في الوقود وسرعة أعلى في النقل من دون الحاجة إلى الهبوط في مطارات متعددة خلال الرحلة. عندما دخلت أول جامبو مسافراً إلى نيويورك 1973 أحسست بأنني أدخل إلى مبنى، أو دار للسينما، مع صف طويل من المسافرين، وكان ذلك بعد نحو 15 عاماً من بدء حياة في السفر على متن طائرة ذات أربعة محركات لها ضجيج، ولا تعلو كثيراً فوق الغيوم، مما يعرّضها للمطبات كلما لاحت غيمة بيضاء، والويل إذا كانت الغيمة سوداء حالكة وغاضبة.
وانتقلنا بعدها إلى طائرة «الكوميت» النفاثة البريطانية الصنع، وكانت مدهشة هي أيضاً بالمقارنة مع ما سبق، ثم صار الطيران كله نفاثاً، وكثرت المنافسات. ظهرت شركة إيرباص كمنافسة للبوينغ الجبارة. ومن ثم أطلق الأوروبيون «الكونكورد»، الأسرع من الصوت، التي مكنت رجال الأعمال من تناول الغداء في باريس والعشاء في نيويورك خلال ثلاث ساعات وربع الساعة. المؤسف أن الكونكورد أُخرجت من الخدمة بعد حادث مريع في مطار شارل ديغول. وعاد الإنسان يسافر خلف الصوت بدل أن يسافر أمامه.
لكن هذه الصناعة التي تشبه الأحلام والخيال معرّضة للخسائر والنكسات أكثر من سواها. كما يحدث عادة خلال الأزمات النفطية الكبرى، أو خلال جائحة عالمية رهيبة كالتي أقعدت الناس في بيوتها رعباً من الموت في جراثيم كوفيد19.
عاماً بعد آخر تتطور صناعة السفر الجوي مثل صناعة السفر البري في السيارة أو القطار. ويبدو أننا اقتربنا كثيراً من عصر التاكسي الطائر. وهناك الآن طائرة تحلّق حول الأرض بالطاقة الشمسية وحدها. كما أعلنت «طيران الإمارات» مؤخراً عن قيام أول رحلة مزودة بالوقود المستدام. ولا ندري على ماذا يعمل العلماء في مختبراتهم السرّيّة للانتقال بنا إلى عصر آخر أبعد -هو أيضاً- من قدرتنا على التخيل.