د. ياسر عبد العزيز
TT

«هنا لندن»... رابط إلكتروني إلى الشجن والحنين

في خريف العام الماضي، احتفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بمرور مائة عام على انطلاقها، حيث بدأ صوتها بالصُّداح عبر أثير الموجات القصيرة في تلك الأثناء، التي كانت فيها المملكة المتحدة قوة عالمية كبرى، خرجت منتصرة من حرب عالمية، متأهبةً لخوض حرب أخرى.
عندما احتفلت الـ«بي بي سي» بتلك الذكرى، لم يعد العالم كما كان؛ إذ لم تعد الموجات القصيرة ناقلاً حيوياً للمواقف والرؤى والأصوات كما كانت الأوضاع في مطلع القرن الفائت، كما لم تعد المملكة المتحدة قوة رئيسية كبرى يمكنها توفير التمويل الكافي للدفاع عن مصالحها وتحسين سمعتها في إمبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس.
تغيرت الأوضاع، وأضحت شبكة «الإنترنت» الناقل الرسمي الأكثر فاعلية والأقل تكلفة والأعظم نفاذاً، كما أمست «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» دولة متوسطة القوة، تعصرها أزمات اقتصادية، وينحسر نفوذها الدولي، وتتضاءل كتلتها الحيوية مقارنة بمنافسين جدد في الشرق والغرب حققوا تفوقاً ملموساً في مقدرات القوة الصلبة، وإن ما زالت بريطانيا تتمتع بمكانة فريدة في مؤشرات القوة الناعمة على الصعيد العالمي، ويعود الفضل في ذلك إلى نسقها السياسي المُنفتح، وديمقراطيتها الفعالة، ودرجة مناسبة من احترام الحريات وحقوق الإنسان، وجاذبية لافتة لمجال الاقتصاد والأعمال، وإمكانات سياحية خلابة، وأيضاً منظومة إعلامية تتمتع بالاحترام ودرجة كافية من الثقة.
بفضل الـ«بي بي سي» وصل صوت بريطانيا إلى أصقاع بعيدة في الكرة الأرضية، حيث استطاعت هذه الشبكة الفريدة أن تشرح بريطانيا للعالم، وأن تشرح العالم للبريطانيين، وكان ذلك على الأرجح بيان مهمتها الذي اجتهد مؤسسوها لتفعيله وإدامته، وقد تكلف ذلك الكثير من الجهد والإبداع ومواجهة تحديات السياسة وتقلباتها، ولولا عديد الهنات والإخفاقات التي تسم أي عمل إعلامي بالضرورة، لحصلت على علامة كاملة في تقييمها الأخير عن العقود العشرة الأولى في عمرها.
وبسبب الحس الإمبراطوري والنزعة الكولونيالية، انطلقت التعبيرات الإعلامية العالمية عن الـ«بي بي سي» بعد عقد واحد من إنشائها، وفي عام 1938، كان موعد منطقتنا مع «بي بي سي العربية»، التي كانت عبارة «هنا لندن» بيرقها وعلامتها الآسرة.
ستكون عبارة «هنا لندن» موضع اهتمام ملايين من الناطقين بالعربية وثقتهم واعتمادهم، وسيصل تأثيرها إلى الأعصاب الحية في الدول العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، وستشارك الأصوات المنطلقة من الاستوديو الإذاعي الصغير في لندن في صياغة وجدان الملايين والتقاطع مع انشغالاتهم، وسيستمر ذلك في منحى تصاعدي لحين وقوع «الانفجار الكبير»؛ أي ظهور شبكة «الإنترنت».
حين ظهرت «الإنترنت» نهاية القرن الفائت، وبدأت الهيمنةَ على آليات التلقي السائدة في المنطقة العربية ومناطق أخرى من العالم، لم تغب الـ«بي بي سي» عن المشهد، بل طورت تعبيراتها الإعلامية على الشبكة، وكرست جهوداً وموارد كبيرة للتمركز في عالمها، لكن ذلك ترافق أيضاً مع تراجع الدور البريطاني على الصعيد العالمي لصالح الفاعلين الجدد، وتغيُّر ذائقة التلقي، وضغوط الاقتصاد والسياسة، التي أخذت في التشكيك في جدوى هيئات الإعلام العامة، بينما دخل منافسون متعددون عالم البث، وقد تسلحوا بقدرات إدارية وإبداعية ومالية ضخمة، وأرهقوا الهيئة العتيدة، وأثاروا الشكوك في جدواها وقدرتها على الاستمرار.
يصف الباحثون المتخصصون جمهور «الإعلام الجديد» بأنه ملول، وتوّاق للتغيير، ويفضل السرعة عما عداها من مقومات البث الإعلامي، وهنا ستتضاءل أهمية مقومات التنافسية المرتكزة إلى الدقة والعمق والتوازن واعتبار السياق.
لطالما كانت تلك المقومات مناط تفوق الـ«بي بي سي»، وقد استثمرت فيها بحق، حتى إنها طورت ميراثاً من المعايير وأدلة العمل الإعلامي، التي تحولت لاحقاً أدوات تعلم وإلهام لمنظمات إعلامية عديدة حول العالم. لكن التغيرات الجارفة في عالم الإعلام لم تُبق الكثير لتلك القيم في ميادين التنافس، ورغم محاولات جادة بذلتها الـ«بي بي سي» للموازنة بين تلك التغيرات والمرتكزات العتيدة، فإن العالم كعادته يمضي إلى جديد كل يوم.
ويوم الجمعة الماضي، سكت صوت إذاعة لندن العربية، بعدما وجد القائمون عليها أن 5% فقط من إجمالي جمهور الخدمة العربية البالغ 39 مليوناً أسبوعياً، يستخدمون الإذاعة فقط.
لا توفر تلك النسبة الضئيلة ذريعة للاستمرار في ظل الضغوط الاقتصادية وتغير أساليب التلقي، ولا يعوِض الشجن والحنين إلى «هنا لندن» الملايين التي «تُهدر» من دون عائد مناسب، وسيكون الأمل معقوداً على شبكة «الإنترنت» التي ستوفر «رابطاً» إلى هذا الشجن والحنين لمن أراد.